وقيل : تقديره ، وأخذ أو أقبل يصنع الفلك ، وكانت على ما روي عن قتادة وعكرمة والكلبي من خشب الساج وقد غرسه بنفسه ولم يقطعه حتى صار طوله أربعمائة ذراع والذراع إلى المنكب في أربعين سنة على ما روي عن سليمان الفراسي ، وقيل : أبقاه عشرين سنة ، وقيل : مكث مائة سنة يغرس ويقطع وييبس ، وقال عمرو بن الحارث : لم يغرسه بل قطعه من جبل لبنان.
وعن ابن عباس أنها كانت من خشب الشمشاد وقطعه من جبل لبنان ، وقيل : إنه ورد في التوراة أنها كانت من الصنوبر ، وروي أنه كان سام وحام ويافث ينحتون معه ، وفي رواية أنه عليهالسلام كان معه أيضا أناس استأجرهم ينحتون ، وذكر أن طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون وارتفاعها في السماء ثلاثون.
وأخرج ابن جرير وغيره عن الحسن قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع وصنع لها بابا في وسطها ، وأتم صنعها على ما روي عن مجاهد في ثلاث سنين.
وعن كعب الأحبار في أربعين سنة ، وقيل : في ستين ، وقيل : في مائة سنة ، وقيل : في أربعمائة سنة ، واختلف في أنه في أي موضع صنعها ، فقيل : في الكوفة ، وقيل : في الهند ، وقيل : في أرض الجزيرة ، وقيل : في أرض الشام ، وسفينة الأخبار في تحقيق الحال فيما أرى لا تصلح للركوب فيها إذ هي غير سالمة عن عيب ، فالحري بحال من لا يميل إلى الفضول أن يؤمن بأنه عليهالسلام صنع الفلك حسبما قص الله تعالى في كتابه ولا يخوض في مقدار طولها وعرضها وارتفاعها ومن أي خشب صنعها وبكم مدة أتم عملها إلى غير ذلك مما لم يشرحه الكتاب ولم تبينه السنة الصحيحة ، هذا وفي التعبير ـ بيصنع ـ على ما قيل : ملاءمة للاستمرار المفهوم من الجملة الواقعة حالا من ضميره أعني قوله تعالى : (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) أي استهزءوا به لعمله السفينة إما لأنهم ما كانوا يعرفونها ولا كيفية استعمالها فتعجبوا من ذلك وسخروا منه ، ويشهد لعدم معرفتهم ما روي عن ابن عباس أنه عليهالسلام حين قال الله تعالى له : (اصْنَعِ الْفُلْكَ) قال : يا رب وما الفلك؟ قال : بيت من خشب يجري على وجه الماء ، قال : يا رب وأين الماء؟ قال : إني على ما أشاء قدير ، وإما لأنه عليهالسلام كان يصنعها في برية بعيدة عن الماء وكانوا يتضاحكون ، ويقولون : يا نوح صرت نجارا بعد ما كنت نبيا ، وهذا مبني على أن السفينة كانت معروفة بينهم ، ويشهد له ما أخرجه ابن جرير والحاكم وصححه ـ وضعفه الذهبي ـ عن عائشة قالت : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كان نوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ثم قطعها ثم جعل يعملها سفينة فيرونه ويسألونه فيقول أعملها سفينة فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر وكيف تجري؟ فيقول : سوف تعلمون الحديث والأكثرون ـ كما قال ابن عطية ـ على أنهم لم يكونوا رأوا سفينة قط ولا كانت إذ ذاك ، وقد ذكر في كتب الأوليات أن نوحا عليهالسلام أول من عمل السفينة ، والحق أنه لا قطع بذلك ، و ـ كل ـ منصوب على الظرفية و «ما» مصدرية وقتية أي كل وقت مرور ، والعامل فيه جوابه وهو (سَخِرُوا) وقوله سبحانه :
(قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) استئناف بياني كأن سائلا سأل فقال : فما صنع نوح عليهالسلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟ فقيل : قال : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص من العذاب (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ومن الاستمرار على الكفر والمعاصي ، والتعرض لأسباب حلول سخط الله تعالى التي من جملتها سخريتكم منا واستهزاؤكم بنا ، وإطلاق السخرية عليهم حقيقة ، وعليه عليهالسلام للمشاكلة لأنها لا تليق بالأنبياء عليهمالسلام ، وفسرها بعضهم بالاستجهال ؛ وهو مجاز لأنه سبب للسخرية ، فأطلقت السخرية وأريد سبها.