الإيمان بذلك يمكن احتمال التأويل على أنه حظ الصوفي من الآية وذلك بأن يؤول الفلك بشريعة نوح التي نجا بها هو ومن آمن معه ، والطوفان باستيلاء بحر الهيولى وإهلاك من لم يتجرد عنها بمتابعة نبي وتزكية نفس كما جاء في مخاطبات إدريس عليهالسلام لنفسه ما معناه أن هذه الدنيا بحر مملوء ماء فإن اتخذت سفينة تركبها عند خراب البدن نجوت منها إلى عالمك وإلا غرقت فيها وهلكت ، وعلى هذا يقال : معنى (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) يتخذ شريعة من ألواح الأعمال الصالحة ودسر العلوم تنتظم بها الأعمال وتحكم (وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ) كما هو المشاهد في أرباب الخلاعة الممطتين غارب الهوى يسخرون من المتشرعين المتقيدين بقيود الطاعة (قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا) بجهلكم (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) عند ظهور وخامة عاقبتكم (كَما تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عند ذلك (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) في الدنيا من حلول ما لا يلائم غرضه وشهوته (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) في الآخرة من استيلاء نيران الحرمان وظهور هيئات الرذائل المظلمة (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) بإهلاك أمته (وَفارَ التَّنُّورُ) باستيلاء الأخلاط الفاسدة والرطوبات الفضلية على الحرارة الغريزية وقوة طبيعة ماء الهيولى على نار الروح الحيوانية ، أو (أَمْرُنا) بإهلاكهم المعنوي (وَفارَ التَّنُّورُ) باستيلاء ماء هوى الطبيعة على القلب وإغراقه في بحر الهيولى الجسماني (قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) أي من كل صنفين من نوع اثنين هما صورتاهما النوعية والصنفية الباقيتان عند فناء الأشخاص.
ومعنى حملهما فيها علمه ببقائهما مع بقاء الأرواح الإنسية فإن علمه جزء من السفينة المتركبة من العلم والعمل فمعلوميتهما محموليتهما وعالميته بهما حامليته إياهما فيها (وَأَهْلَكَ) ومن يتصل بك في سيرتك من أقاربك (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) أي الحكم بإهلاكه في الأزل لكفره (وَمَنْ آمَنَ) من أمتك (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) أي بسم الله تعالى الأعظم الذي هو وجود كل عارف كامل من أفراد نوع الإنسان إجراء أحكامها وترويجها في بحر العالم الجسماني وإثباتها وأحكامها كما ترى من إجراء كل شريعة وأحكامها بوجود الكامل ممن ينسب إليها (إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ) لهيئات نفوسكم البدنية المظلمة وذنوب ملابس الطبيعة المهلكة إياكم المغرقة في بحرها وذلك بمتابعة الشريعة (رَحِيمٌ) بإفاضة المواهب العلمية والكشفية والهيئات النورانية التي ينجيكم بها (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ) من بحر الطبيعة الجسمانية (كَالْجِبالِ) الحاجبة للنظر المانعة من السير وهم لا يبالون بذلك محفوظون من أن يصيبهم شيء من ذلك الموج ، وهذا الجريان يعرض للسالك في ابتداء أمره ولو لا أنه محفوظ في لزوم سفينة الشرع لهلك.
ولعل في الآية على هذا تغليبا (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) المحجوب بالعقل المشوب بالوهم (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) لذلك الحجاب عن الدين والشريعة (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) أي ادخل في ديننا (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) المحجوبين الهالكين بأمواج هوى النفس المغرقين في بحر الطبع (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي سألتجئ إلى الدماغ وأستعصم بالعقل المشرق هناك ليحفظني من استيلاء بحر الهيولى فلا أغرق فيه (قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) وهو الله الذي رحم أهل التوحيد وأفاض عليهم من شآبيب لطفه ما عرفوا به دينه الحق (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ) أي موج هوى النفس واستيلاء ماء بحر الطبيعة وحجب عن الحق (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) في بحر الهيولى الجسمانية ، وقيل : من جهة الحق على لسان الشرع لأرض الطبيعة (يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) وقفي على حد الاعتدال ، ولسماء العقل المحجوبة بالعادة والحس المشوبة بالوهم المغيمة بغيم الهوى (يا سَماءُ أَقْلِعِي) عن إمداد الأرض (وَغِيضَ الْماءُ) أي ماء قوة الطبيعة الجسمانية ومدد الرطوبة الحاجبة لنور الحق