ورتب باعتبار الآخر إشارة إلى أنه مقصود منه ، ويجوز أن تكون ـ لما لمجرد الحين ـ (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) تكرير لأجل بيان ما نجاهم عنه وهي الريح التي كانت تحمل الظعينة وتهدم المساكن وتدخل في أنوف أعداء الله تعالى وتخرج من أدبارهم فتقطعهم إربا إربا ، أو المراد بهذا الإنجاء من عذاب الآخرة وبالأول الإنجاء من عذاب الدنيا ، ورجح الأول بأنه أوفق لمقتضى المقام ، وحاصله أن الأول إخبار بأن الإيمان الذي وفقوا له صار سبب إنجائهم. والثاني بأن ذلك الإنجاء كان من عذاب أي عذاب دلالة على كمال الامتنان وتحريضا على الإيمان وليس من أسلوب ـ أعجبني زيد وكرمه ـ في شيء كما ظنه العلامة الطيبي.
وقد أورد على الثاني أن إنجاءهم من عذاب الآخرة ليس في وقت نزول العذاب في الدنيا ولا مسببا عنه إلا أن يجاب بأنه عطف على القيد والمقيد كما قيل في قوله سبحانه : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] قيل : ولا يخفى ما فيه من التكلف من غير داع لأن الموافق للتعبير بالماضي المفيد لتحققه حتى كأنه وقع أن يجعل باعتبار ذلك واقعا في وقت النزول تجوزا أو المعنى حكمنا بذلك وتبين ما يكون لهم لأن الدنيا أنموذج الآخرة وأيا ما كان فالمراد بغلظ العذاب تضاعفه ، وقد يقال على الاحتمال الأول في وصف العذاب الذي كان بالريح : بالغلظ الذي هو ضد الرقة التي هي صفة الريح ما لا يخفى من اللطف ، وفيه أيضا مناسبة لحالهم فإنهم كانوا غلاظا شدادا (وَتِلْكَ عادٌ) أنث اسم الإشارة باعتبار القبيلة على ما قيل ، فالإشارة إلى ما في الذهن وصيغة البعيد لتحقيرهم أو لتنزيلهم منزلة البعيد لعدمهم ، أو الإشارة إلى قبورهم ومصارعهم ، وحينئذ الإشارة للبعيد المحسوس والإسناد مجازي أو هو من مجاز الحذف أي تلك قبور عاد ، وجوز أن يكون بتقدير أصحاب تلك عاد ، والجملة مبتدأ وخبر ، وكان المقصود الحث على الاعتبار بهم والاتعاظ بأحوالهم ، وقوله سبحانه : (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) إلخ استئناف لحكاية بعض قبائحهم أي كفروا بآيات ربهم التي أيد بها رسوله الداعي إليه ودل بها على صدقه وأنكروها فقالوا : يا هود ما جئتنا ببينة ، أو أنكروا آياته سبحانه في الآفاق والأنفس الدالة عليه تعالى حسبما قال لهم هود عليهالسلام.
وجوز أن يراد بها الآيات التي أتى بها هود وغيره من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، ويلائمه جمع الرسل الآتي على قول ، وعدي ـ جحد ـ بالباء حملا له على كفر لأنه المراد ، أو بتضمينه معناه كما أن كفر يجري مجرى جحد فيعدى بنفسه نحو قوله سبحانه : (أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ) ، وقيل : كفر كشكر يتعدى بنفسه وبالباء ، وظاهر كلام القاموس أن جحد كذلك (وَعَصَوْا رُسُلَهُ) قيل : المراد بالرسل هود عليهالسلام والرسل الذين كانوا معه من قبله وهو خلاف الظاهر ، وقيل : المراد بهم هود عليهالسلام وسائر الرسل من قبله تعالى للأمم من قبله ومن بعده عليهالسلام بناء على أن عصيانه عليهالسلام وكذا عصيان كل رسول بمنزلة عصيان الرسل جميعهم لأن الجميع متفقون على التوحيد فعصيان واحد عصيان للجميع فيه ، أو على أن القوم أمرهم كل رسول من قبل بطاعة الرسل والإيمان بهم إن أدركوهم فلم يمتثلوا ذلك الأمر (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ) متعال عن قبول الحق ، وقال الكلبي : هو الذي يقتل على الغضب ويعاقب على المعصية.
وقال الزجاج : هو الذي يجبر الناس على ما يريد ، وذكر ابن الأنباري أنه العظيم في نفسه المتكبر على العباد (عَنِيدٍ) أي طاغ من ـ عند ـ بتثليث النون ـ عندا ـ بالإسكان ـ وعندا ـ بالتحريك ـ وعنودا ـ بضم العين إذا طغا وجاوز الحد في العصيان. وفسره الراغب بالمعجب بما عنده ، والجوهري بمن خالف الحق ورده وهو يعرفه ، وكذا عاند ، ويطلق الأخير على البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، وجمعه ـ عند ـ كراكع وركع ، وجمع العنود ـ عند ـ كرغيف ورغف ، والعنود قيل : بمعنى العنيد.