باشرته من الدعوة إلى التوحيد وترك عبادة الآلهة فلما سمعنا منك ما سمعناه انقطع عنك رجاؤنا ، وقيل : كانوا يرجون دخوله في دينهم بعد دعواه إلى الحق ثم انقطع رجاؤهم ـ فقبل هذا ـ قبل هذا الوقت لا قبل الذي باشره من الدعوة ، وحكى النقاش عن بعضهم أن (مَرْجُوًّا) بمعنى حقيرا وكأنه فسره أولا بمؤخرا غير معتنى به ولا مهتم بشأنه ، ثم أراد منه ذلك وإلا ـ فمرجوا ـ بمعنى حقير لم يأت في كلام العرب ، وجاء قولهم : (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) على جهة التوعد والاستبشاع لتلك المقالة منه والتعبير ـ بيعبد ـ لحكاية الحال الماضية ، وقرأ طلحة «مرجؤا» بالمد والهمز (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد وترك عبادة الآلهة وغير ذلك من الاستغفار والتوبة (مُرِيبٍ) اسم فاعل من أرابه المتعدي بنفسه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين ، أو من أراب الرجل اللازم إذا كان ذا ريبة ، والإسناد على الوجهين مجازي إلا أن بينهما ـ كما قال بعض المحققين ـ فرقا ، وهو أن الأول منقول من الأعيان إلى المعنى. والثاني منقول من صاحب الشك إلى الشك كما تقول : شعر شاعر ، فعلى الأول هو من باب الإسناد إلى السبب لأن وجود الشك سبب لتشكيك المشكك ولولاه لما قدر على التشكيك ، والتنوين في (مُرِيبٍ) وفي (شَكٍ) للتفخيم ، (وَإِنَّنا) بثلاث نونات ، ويقال : إنا بنونين وهما لغتان لقريش.
قال الفراء : من قال : إننا أخرج الحرف على أصله لأن كناية المتكلمين ـ نا ـ فاجتمعت ثلاث نونات ، ومن قال : إنا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين.
واختار أبو حيان أن المحذوف النون الثانية لا الثالثة لأن في حذفها إجحافا بالكلمة إذ لا يبقى منها إلا حرف واحد ساكن دون حذف الثانية لظهور بقاء حرفين بعده على أنه قد عهد حذف النون الثانية من إن مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون ـ نا ـ ولا ريب في أن ارتكاب المعهود أولى من ارتكاب غير المعهود (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجة ظاهرة وبرهان وبصيرة (مِنْ رَبِّي) مالكي ومتولي أموري (وَآتانِي مِنْهُ) من قبله سبحانه (رَحْمَةً) نبوة ، وهذا من الكلام المنصف ، والاستدراج إذ لا يتصور منه عليهالسلام شك فيما في حيز إن ، وأصل وضعها أنها لشك المتكلم (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ) أي فمن يمنعني من عذابه ، ففي الكلام مضاف مقدر والنصرة مستعملة في لازم معناها أو أنّ الفعل مضمن معنى المنع ، ولذا تعدى ـ بمن ـ والعدول إلى الإظهار لزيادة التهويل والفاء لترتيب إنكار النصر على ما سبق من كونه على بينة وإيتاء الرحمة على تقدير العصيان حسبما يعرب عنه قوله : (إِنْ عَصَيْتُهُ) أي في المساهلة في تبليغ الرسالة والمنع عن الشرك به تعالى والمجاراة معكم فيما تشتهون فإن العصيان ممن ذلك شأنه أبعد والمؤاخذة عليه ألزم وإنكار نصرته أدخل (فَما تَزِيدُونَنِي) إذن باستتباعكم إياي أي لا تفيدونني إذ لم يكن فيه أصل الخسران حتى يزيدوه (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي غير أن تجعلوني خاسرا بإبطال أعمالي وتعريضي لسخط الله تعالى ، أو (فَما تَزِيدُونَنِي) بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران ، وأقول لكم : إنكم لخاسرون لا أن أتبعكم.
وروي هذا عن الحسن بن الفضل ، فالفاعل على الأول هم والمفعول صالح ، وعلى الثاني بالعكس والتفعيل كثيرا ما يكون للنسبة كفسقته وفجرته ، والزيادة على معناها والفاء لترتيب عدم الزيادة على انتفاء الناصر المفهوم من إنكاره على تقدير العصيان مع تحقق ما ينفيه من كونه عليهالسلام على بينة من ربه وإيتائه النبوة.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المعنى (فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ) مضارة في خسرانكم ، فالكلام على حذف مضاف ، وعن مجاهد ما تزدادون أنتم باحتجاجكم بعبادة آبائكم إلا خسارا ، وأضاف الزيادة إلى نفسه لأنهم أعطوه ذلك وكان قد سألهم الإيمان ، قال ابن عطية : المعنى فما تعطوني فيما أقتضيه منكم من الإيمان (غَيْرَ تَخْسِيرٍ)