(فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ) كناية عن أنهم لا يمدون إليه أيديهم ويلزمه أنهم لا يأكلون ، وقيل: (لا) كناية بناء على ما روي أنهم كانوا ينكتون اللحم بقداح في أيديهم وليس بشيء ، وفي القلب من صحة هذه الرواية شيء إذ هذا النكت أشبه شيء بالبعث ، والملائكة عليهمالسلام يجلون عن مثله ؛ و (رَأى) قيل : علمية فجملة (لا تَصِلُ) مفعول ثان ، والظاهر أنها بصرية ، والجملة في موضع الحال ففيه دليل على أن من أدب الضيافة النظر إلى الضيف هل يأكل أولا لكن ذكروا أنه ينبغي أن يكون بتلفت ومسارقة لا بتحديد النظر لأن ذلك مما يجعل الضيف مقصرا في الأكل أي لما شاهد منهم ذلك (نَكِرَهُمْ) أي نفرهم (وَأَوْجَسَ) أي استشعر وأدرك ، وقيل : أضمر (مِنْهُمْ) أي من جهتهم (خِيفَةً) أي خوفا ، وأصلها الحالة التي عليها الإنسان من الخوف ، ولعل اختيارها بالذكر للمبالغة حيث تفرس لذلك مع جهالته لهم من قبل وعدم معرفته من أي الناس يكونون كما ينبئ عنه ما في الذاريات من قوله سبحانه حكاية عنه : (قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الذاريات : ٢٥] أنهم ملائكة ، وظن أنهم أرسلوا لعذاب قومه أو لأمر أنكره الله تعالى عليه (قالُوا) حين رأوا أثر ذلك عليه عليهالسلام ، أو أعلمهم الله تعالى به ، أو بعد أن قال لهم ما في [الحجر : ٥٢] (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) فإن الظاهر منه أن هناك قولا بالفعل لا بالقوة كما هو احتمال فيه على ما ستراه إن شاء الله تعالى ، وجوز أن يكون ذلك لعلمهم أن علمه عليهالسلام أنهم ملائكة يوجب الخوف لأنهم لا ينزلون إلا بعذاب ، وقيل : إن الله تعالى جعل للملائكة مطلقا ما لم يجعل لغيرهم من الاطلاع كما قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) [الانفطار : ١٢] وفي الصحيح «قالت الملائكة رب عبدك هذا يريد أن يعمل سيئة» الحديث ، وهو قول بأن الملائكة يعلمون الأمور القلبية.
وفي الأخبار الصحيحة ما هو صريح بخلافه ، والآية والخبر المذكوران لا يصلحان دليلا لهذا المطلب ، وإسناد القول إليهم ظاهر في أن الجميع قالوا : (لا تَخَفْ) ويحتمل أن القائل بعضهم ، وكثيرا ما يسند فعل البعض إلى الكل في أمثال ذلك ، وظاهر قوله سبحانه : (إِنَّا أُرْسِلْنا) أنه استئناف في معنى التعليل للنهي المذكور كما أن قوله سبحانه : (إِنَّا نُبَشِّرُكَ) [الحجر : ٥٣ ، مريم : ٧] استئناف كذلك فإن إرسالهم إلى قوم آخرين يوجب أمنه من الخوف أي (أُرْسِلْنا) بالعذاب (إِلى قَوْمِ لُوطٍ) خاصة ، ويعلم مما ذكرنا أنه عليهالسلام أحس بأنهم ملائكة ، وإليه ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وقد يستدل له بقولهم : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا) فإنه كما لا يخفى على من له أدنى ذوق إنما يقال لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا فخاف ، وأن الإنكار المدلول عليه بنكرهم غير المدلول عليه بما في الذاريات فلا إشكال في كون الإنكار هناك قبل إحضار الطعام وهنا بعده ، وأصل الإنكار ضد العرفان ، ونكرت وأنكرت واستنكرت بمعنى ، وقيل : إن أنكر فيما لا يرى من المعاني ونكر فيما يرى بالبصر ، ومن ذلك قول الشاعر :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت |
|
من الحوادث إلا الشيب والصلعا |
فإنه أراد في الأول على ما قيل : أنكرت مودتي ، وقال الراغب : إن أصل ذلك أن يرد على القلب ما لا يتصوره وذلك ضرب من الجهل وبه فسر ما في الآية ، وفرق بعضهم بين ما هنا وبين ما وقع في الذاريات بأن الأول راجع إلى حالهم حين قدم إليهم العجل. والثاني متعلق بأنفسهم ولا تعلق له برؤية عدم أكلهم بل وقع عند رؤيته عليهالسلام لهم لعدم كونهم من جنس ما يعده من الناس ، ويحتاج هذا إلى اعتبار حذف المضاف أو ملاحظة الحيثية ، واعترض ما قدمناه بأن فيه ارتكاب مجاز ، ولعل الأمر فيه سهل.
وذهب بعضهم إلى أنه عليهالسلام لم يعرف أنهم ملائكة حتى قالوا له : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا) وكأن سبب خوفه منهم أنهم لم يتحرموا بطعامه فظن أنهم يريدون به سوءا إذ كانت العادة إذ ذاك كذلك ، وكان عليهالسلام نازلا