السلام مظنة لسؤال السامع بأنهم ما قالوا : أجيب بأنهم (قالُوا سَلاماً) أي سلمنا أو نسلم عليك سلاما فهو منصوب بفعل محذوف ، والجملة مقول القول قال ابن عطية : ويصح أن يكون مفعول (قالُوا) على أنه حكاية لمعنى ما قالوا لا حكاية للفظهم.
وروي ذلك عن مجاهد والسدي ، ولذلك عمل فيه القول ، وهذا كما تقول لرجل قال : لا إله إلا الله قلت حقا وإخلاصا.
وقيل : إن النصب ـ بقالوا ـ لما فيه من معنى الذكر كأنه قيل : ذكروا سلاما (قالَ سَلامٌ) أي عليكم سلام أو سلام عليكم ، والابتداء بنكرة مثله سائغ كما قرر في النحو ، وقد حياهم عليهالسلام بأحسن من تحيتهم لأنها بجملة اسمية دالة على الدوام والثبات فهي أبلغ ، وأصل معنى السلام السلامة مما يضر.
وقرأ حمزة والكسائي «سلم» في الثاني بدون ألف مع كسر السين وسكون اللام وهو على ما قيل : لغة في (سَلامٌ) كحرم ، وحرام ، ومنه قوله :
مررنا فقلنا : إيه «سلم» فسلمت |
|
كما اكتل بالبرق الغمام اللوائح |
وقال ابن عطية : ويحتمل أن يراد بالسلم ضد الحرب ، ووجه بأنهم لما امتنعوا من تناول طعامه وخاف منهم قاله أي أنا مسالم لا محارب لأنهم كانوا لا يأكلون طعام من بينهم وبينه حرب ، واعترض بأنه يدل على أن قوله هذا بعد تقديم الطعام. وقوله سبحانه : (فَما لَبِثَ) إلخ صريح في خلافه ، وذكر في الكشاف أن حمزة والكسائي قرءا بكسر السين وسكون اللام في الموضعين وهو مخالف للمنقول في كتب القراءات ، وقرأ ابن أبي عبلة ـ قال سلاما ـ بالنصب كالأول ، وعنه أنه قرأ بالرفع فيهما (فَما لَبِثَ) أي فما أبطأ إبراهيم عليهالسلام (أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) أي في مجيئه به أو عن مجيئه به (فَما) نافية ، وضمير (لَبِثَ) لإبراهيم. و (أَنْ جاءَ) بتقدير حرف جر متعلق بالفعل وحذف الجار قبل أن وأن مطرد ، وحكى ابن العربي أن (أَنْ) بمعنى حتى ، وقيل : (أَنْ) وما بعدها فاعل (لَبِثَ) أي فما تأخر مجيئه ، وروي ذلك عن الفراء ، واختاره أبو حيان.
وقيل : ما مصدرية والمصدر مبتدأ أو هي اسم موصول بمعنى الذي كذلك ، و (أَنْ جاءَ) على حذف مضاف أي قدر وهو الخبر أي فلبثه أو الذي لبثه قدر مجيئه وليس بشيء والعجل ولد البقرة ، ويسمى الحسيل والخبش (١) بلغة أهل السراة والباء فيه للتعدية أو الملابسة ، والحنيذ السمين الذي يقطر ودكه من حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال كأن ودكه كالجلال عليه ، أو كأن ما يسيل منه عرق الدابة المجللة للعرق ، واقتصر السدي على السمين في تفسيره لقوله تعالى : (بِعِجْلٍ سَمِينٍ) [الذاريات : ٢٦] ، وقيل : هو المشوي بالرضف في أخدود ، وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وفي رواية عن مجاهد تفسيره بالمطبوخ. وإنما جاء عليهالسلام بالعجل لأن ما له كان البقر وهو أطيب ما فيها ، وكان من دأبه عليهالسلام إكرام الضيف ، ولذا عجل القرى ، وذلك من أدب الضيافة لما فيه من الاعتناء بشأن الضيف ، وفي مجيئه بالعجل كله مع أنهم بحسب الظاهر يكفيهم بعضه دليل على أنه من الأدب أن يحضر للضيف أكثر مما يأكل ، واختلف في هذا العجل هل كان مهيأة قبل مجيئهم أو أنه هيئ بعد أن جاءوا؟ قولان اختار أبو حيان أولهما لدلالة السرعة بالإتيان به على ذلك ، ويختار الفقير ثانيهما لأنه أزيد في العناية وأبلغ في الإكرام ، وليست السرعة نصا في الأول كما لا يخفى.
__________________
(١) قوله : والخبش كذا في خطه على احتمال أنه الحبش ، ولم نظفر بأيهما اسم ولد البقرة حرره.