وقال بعض أجلة الفضلاء : إن اختيار إحدى الطريقين ثمة والأخرى هنا وإن كان مثله لا يسأل عنه لأنه دوري لأن أول الذكرين يقتضي التصريح فيناسب في الثاني خلافه انتهى ، وهو دون ما قلناه ، و (مَنْ) في قوله سبحانه : (مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ) قيل : موصولة مفعول العلم وهو بمعنى العرفان ، وجملة (يَأْتِيهِ عَذابٌ) صلة الموصول ، وجملة (يُخْزِيهِ) صفة (عَذابٌ) ووصفه بالإخزاء تعريضا بما أوعدوه عليهالسلام من الرجم فإنه مع كونه عذابا فيه خزي ظاهر ، وقوله تعالى : (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) عطف على (مَنْ يَأْتِيهِ) و (مَنْ) أيضا موصولة ، وجوز أن تكون (مَنْ) في الموضعين استفهامية ، والعلم على بابه وهي معلقة له عن العمل.
واستظهر أبو حيان الموصولية ، وليس هذا العطف من عطف القسيم على قسيمه كما في ـ سيعلم الصادق والكاذب ـ إذ ليس القصد إلى ذكر الفريقين ، وإنما القصد إلى الرد على القوم في العزم على تعذيبه بقولهم : (لَرَجَمْناكَ) والتصميم على تكذيبه بقولهم : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود : ٨٧] إلخ فكأنه قيل : سيظهر لكم من المعذب أنتم أم نحن ومن الكاذب في دعواه أنا أم أنتم ؛ وفيه إدراج حال الفريقين أيضا.
وفي الإرشاد أن فيه تعريضا بكذبهم في ادعائهم القوة والقدرة على رجمه عليهالسلام ، وفي نسبته إلى الضعف والهوان وفي ادعائهم الإبقاء عليه لرعاية جانب الرهط ، وقال الزمخشري : إنه كان القياس ، ومن هو صادق بدل هذا المعطوف لأنه قد ذكر عملهم على مكانتهم ، وعمله على مكانته ، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فحينئذ ينصرف (مَنْ يَأْتِيهِ) إلخ إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث ولكنهم لما كانوا يدعونه عليهالسلام كاذبا قال : ومن هو كاذب بمعنى في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم يعني أنه عليهالسلام جرى في الذكر على ما اعتادوه في تسميته كاذبا تجهيلا لهم ، والمعنى ستعلمون حالكم وحال الصادق الذي سميتموه كاذبا لجهلكم ، وليس المراد ستعلمون أنه كاذب في زعمكم فلا يرد ما توهم من أن كذبه في زعمهم واقع معلوم لهم الآن فلا معنى لتعليق علمه على المستقبل ، وقال ابن المنير : الظاهر أن الكلامين جميعا لهم ـ فمن يأتيه ـ إلخ متضمن ذكر جزائهم ، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) متضمن ذكر جرمهم الذي يجازون به وهو الكذب ، وهو من عطف الصفة على الصفة والموصوف واحد كما تقول لمن تهدده : ستعلم من يهان ومن يعاقب ، وأنت تعني المخاطب في الكلامين فيكون في ذكر كذبهم تعريض لصدقه وهو أبلغ وأوقع من التصريح ، ولذلك لم يذكر عاقبة شعيب عليهالسلام استغناء بذكر عاقبتهم ، وقد مر مثل ذلك أول السورة في قوله سبحانه : (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ) [الزمر : ٤٠] حيث اكتفى بذلك عن أن يقول : ومن هو على خلاف ذلك ، ونظيره (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) [الأنعام : ١٣٥] حيث ذكر فيه إحدى العاقبتين لأن المراد بهذه العاقبة عاقبة الخير لأنها متى أطلقت لا يعني إلا ذلك نحو والعاقبة للمتقين ، ولأن اللام في له يدل على أنها ليست عليه ، واستغنى عن ذكر مقابلتها انتهى ، وتعقبه الطيبي بما رده عليه الفاضل الجلبي (وَارْتَقِبُوا) أي انتظروا ما أقول لكم من حلول ما أعدكم به وظهور صدقه (إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) أي منتظر ذلك ، وقيل : المعنى انتظروا العذاب إني منتظر النصرة والرحمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، و (رَقِيبٌ) إما بمعنى مرتقب كالرفيع بمعنى المرتفع أو راقب كالصريم بمعنى الصارم ، أو مراقب كعشير بمعنى معاشر ، والأنسب على ما قيل بقوله : (ارْتَقِبُوا) : الأول وإن كان مجيء فعيل بمعنى اسم الفاعل المزيد غير كثير وفي زيادة (مَعَكُمْ) إظهار منه عليهالسلام لكمال الوثوق بأمره (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) أي عذابنا كما ينبئ عنه قوله سبحانه : (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) إلخ أو وقته فإن الارتقاب يؤذن بذلك (نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) وهو الإيمان الذي وفقناهم له أو بمرحمة كائنة منا لهم وإنما جيء بالفاء في قصتي ثمود ولوط حيث قيل : (فَلَمَّا