أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(١٢٣)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) وهي الآيات التسع العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والنقص من الثمرات والأنفس ، والباء متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول (أَرْسَلْنا) أو نعتا لمصدره المؤكد أي أرسلناه حال كونه ملتبسا بآياتنا أو أرسلناه إرسالا ملتبسا بها. (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) هو المعجزات الباهرة منها ـ وهو العصا ـ والإفراد بالذكر لإظهار شرفها لكونها أبهرها ، والمراد بالآيات ما عداها ، ويجوز أن يراد بهما واحد ، والعطف باعتبار التغاير الوصفي أي أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا وكونه سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها من أبان لازما بمعنى تبين ومتعديا بمعنى بين ، وجعل بعضهم الآيات والسلطان شيئا واحدا في نفس الأمر إلا أن في ذلك تجريدا نحو مررت بالرجل الكريم والنسمة المباركة كأنه جرد من الآيات الحجة وجعلها غيرها وعطفت عليها لذلك ، وجوز أن يكون المراد بالآيات ما سمعت وبالسلطان ما بينه عليهالسلام في تضاعيف دعوته حين قال له فرعون : (فَمَنْ رَبُّكُما) [طه : ٤٩] (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) [طه : ٥١] من الحقائق الرائقة والدقائق اللائقة أو هو الغلبة والاستيلاء كما في قوله سبحانه : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) وجعله عبارة عن التوراة ، أو إدراجها في جملة الآيات يرده كما قال أبو حيان قوله عزوجل : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) فإن نزولها إنما كان بعد مهلك فرعون وقومه قاطبة ليعمل بها بنو إسرائيل فيما يأتون ويذرون ، وأما فرعون وقومه فإنما كانوا مأمورين بعبادة رب العالمين وترك العظيمة الشنعاء التي كان يدعيها الطاغية وتقبلها منه فئته الباغية وبإرسال بني إسرائيل من الأسر والقسر ، ومن هذا يعلم ما في عد النقص من الثمرات والنقص من الأنفس آية واحدة من الآيات التسع ، وعد إظلال الجبل منها لأن ذلك إنما كان لقبول التوراة حين أباه بنو إسرائيل فهو متأخر أيضا ضرورة. ومثل ذلك عد فلق البحر وإظلال الغمام بدلهما لأن هذا الإظلال أيضا متأخر عن مهلك فرعون وقومه.
وأجاب بعض الأفاضل عن الاعتراض على جعل التوراة من الآيات بأن التصحيح ممكن ، أما أولا فبما صرحوا به من جواز إرجاع الضمير وتعلق الجار ونحوه بالمطلق الذي في ضمن المقيد فقوله سبحانه : (إِلى فِرْعَوْنَ) يجوز أن يتعلق بالإرسال المطلق لا المقيد بكونه بالتوراة ، وأما ثانيا فبأن يقال : إن موسى عليهالسلام كما أرسل إلى الفراعنة أرسل إلى بني إسرائيل أيضا فيجب أن يحمل ملأ فرعون على ما يشملهم فيجيء الكلام على التوزيع على معنى أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين وإلى ملئه بالتوراة فيكون لفا ونشرا غير مرتب ، ويقال نحو هذا على تقدير عدّ إظلال الجبل أو الغمام من الآيات ، وفي مجموعة سري الدين المصري أن هذا السؤال مما أورد الحافظ الطاشكندي على