اللعنة وتسميتها عونا على التفسير الأول من باب الاستعارة التهكمية ، وأما كونها معانا فلأنها أرفدت في الآخرة بلعنة أخرى لتكونا هاديتين إلى صراط الجحيم ، وكان القياس أن يسند المرفود إليهم لأن اللعنة في الدنيا تتبعهم وكذا في الآخرة لقوله سبحانه : (وَأُتْبِعُوا) إلخ ، ولكن أسند إلى الرفد الذي هو اللعنة على الإسناد المجازي نحو جدّ جدّه وجنونك مجنون ، وكذا يعتبر الاستعارة والمجاز المذكوران على التفسير الثاني كذا قيل.
وقال بعض المدققين : إن في قول الزمخشري في بيان الآية على المعنى الأول المنقول عن أبي عبيدة وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له ، وقد رفدت باللعنة في الآخرة ما يشعر بأنه ليس من الاستعارة التهكمية في شيء إذ لو كان رفدا للمعذبين لكان من ذلك القبيل ، ثم قال : وجعله من باب جد جده أبعد وأبعد لأنه ذكر أنه رفد أعين برفد أما لو فسر بالتفسير الثاني ففيه الأول لا الثاني لأنه ليس مصدرا وإنما العطاء بمعنى ما يعطي فكثيرا ما يطلق عليه انتهى وفيه نظر لا يخفى ، ثم إن القول بأن هناك لعنتين رفدت إحداهما بالأخرى هو المروي عن مجاهد وغيره فيوم معطوف على محل في الدنيا.
وذهب قوم إلى أن التقسيم هو أن لهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة بئس ما يرفدون به فهي لعنة واحدة أولا وقبح إرفاد آخرا انتهى ، وتعقبه في البحر بأن هذا لا يصح لأنه يدل على أن (يَوْمَ) معمول (بِئْسَ) وهي لا تتصرف فلا يتقدم معمولها عليها ، ولو كان (يَوْمَ) متأخرا صح ذلك كما قال الشاعر :
ولنعم حشو الدرع أنت إذا |
|
دعيت نزال ولج في الذعر |
وهو كلام وجيه ، والآية ظاهرة في سوء حال فرعون يوم القيامة لأنه إذا كان حال الاتباع ما قص الله سبحانه فما ظنك بحال من أغواهم وألقاهم في هذا الضلال البعيد؟ وهذا يعكر على من ذهب إلى أنه قبض طاهرا مطهرا بل قال بعضهم : إنها نص في رد ذلك لأنه تعالى سلب عنه فيها الرشاد بعد موته والمؤمن الطاهر المطهر لا يسلب عنه الرشاد بعد الموت ، ولعل من ذهب إلى ذلك يقول : باب التأويل واسع وباب الرحمة أوسع منه.
(ذلِكَ) إشارة إلى ما قص من أنباء الأمم وبعده باعتبار تقضيه أو باعتبار ما قيل في غير موضع ، والخطاب لرسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو مبتدأ خبره (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) المهلكة بما جنته أيدي أهلها فأل فيها للعهد السابق تقديرا بذكر أربابها (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) خبر بعد خبر أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى مقصوص عليك ؛ وجوز أن يكون (مِنْ أَنْباءِ) في موضع الحال وهذا هو الخبر ، وجوز أيضا عكس ذلك (مِنْها) أي من تلك القرى (قائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي ومنها حصيد ، فالعطف من عطف الجملة على الجملة وهو الذي يقتضيه المعنى كما لا يخفى ، وقد شبه ما بقي منها بالزرع القائم على ساقه وما عفا وبطل بالحصيد ، فالمعنى منها باق ومنها عاف ، وهو المروي عن قتادة ، ونحوه ما روي عن الضحاك (قائِمٌ) لم يخسف (وَحَصِيدٌ) قد خسف ، وقيل : (وَحَصِيدٌ) الزرع جاء في كلامهم بمعنى الفناء كما في قوله :
والناس في قسم المنية بينهم |
|
كالزرع منه قائم وحصيد |
وصيغة فعيل بمعنى مفعول أي محصود كما قال الأخفش ، وجمعه حصدى وحصاد مثل مرضى ومراض ، وجملة (مِنْها قائِمٌ) إلخ مستأنفة استئنافا نحويا للتحريض على النظر في ذلك والاعتبار به ، أو بيانيا كأنه سئل لما ذكرت ما حالها؟ فأجيب بذلك ، وقال أبو البقاء : هي في موضع الحال من الهاء في نقصه ، وجوز الطيبي كونها حالا من القرى ، وادعى صاحب الكشف أن جعلها حالا من ضمير نقصه فاسد لفظا ومعنى ، ومن القرى كذلك ، وفي الحواشي الشهابية أراد بالفساد اللفظي في الأول خلو الجملة من الواو والضمير. وفي الثاني مجيء الحال من المضاف إليه في غير