تناقض القضيتين وليس هذا الذي فعلوه بأبعد مما فعله المرتضى على أن في كلامه بعد ما لا يخفى.
وقال بعض الفضلاء : لا منافاة بين هذه الآية والآيات التي تدل على التكلم يوم القيامة لأن المراد من يوم يأتي حين يأتي ، والقضية المشتملة على ذلك وقتية حكم فيها بسلب المحمول عن جميع أفراد الموضوع في وقت معين وهذا لا ينافي ثبوت المحمول للموضوع في غير ذلك الوقت ، وقال ابن عطية : لا بد من أحد أمرين : إما أن يقال : إن ما جاء في الآيات من التلاوم والتساؤل والتجادل ونحو ذلك مما هو صريح في التكلم كان عن إذن ، وإما أن يحمل التكلم هنا على تكلم شفاعة أو إقامة حجة وكلا القولين كما ترى ، والاستثناء قيل : من أعم الأسباب أي لا تكلم نفس بسبب من الأسباب إلا بسبب إذنه تعالى وهو متصل ، وجوز أن يكون منقطعا ويقدر ما لا يتناول المستثنى أي لا تكلم نفس باقتدار من عندها إلا بإذنه تعالى ، ولا يخفى أن هذا استثناء مفرغ ، وقد طرق سمعك ما هو الأصح فيه ، وقرئ كما في المصاحف لابن الأنباري ـ يوم يأتون لا تكلم دابة إلا بإذنه ـ (فَمِنْهُمْ) أي أهل الموقف المدلول عليه بقوله سبحانه : (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) أو الجميع الذي تضمنه (نَفْسٌ) إذ هو اسم جنس أريد به الجميع على ما نقله أبو حيان عن ابن عطية ، أو الناس المذكور في قوله سبحانه : (مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) ونقل ابن الأنباري أن الضمير لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم وهو من الغرابة بمكان وكأنه قصد هذا القائل بذلك تمهيدا لتوجيه الاستثناء الآتي وهو ولله الحمد غني عن ذلك ، والظاهر أن من للتبعيض والجار والمجرور خبر مقدم ، وقوله سبحانه : (شَقِيٌ) مبتدأ ، وقوله تعالى : (وَسَعِيدٌ) بتقدير ومنهم سعيد ، وحذف منهم لدلالة الأول عليه ، والسعادة على ما قال الراغب : معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخير ويضادها الشقاوة ، وفسر في البحر الشقاوة بنكد العيش وسوئه ، ثم قال : والسعادة ضدها ، وفي القاموس ما يقرب من ذلك ، فالشقي والسعيد هما المتصفان بما ذكر ، وفسر غير واحد الأول بمن استحق النار بمقتضى الوعيد والثاني بمن استحق الجنة بموجب الوعد ، وهذا هو المتعارف بين الشرعيين ، وتقديم الشقي على السعيد لأن المقام مقام الإنذار والتحذير (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا) أي سبقت لهم الشقاوة (فَفِي النَّارِ) أي مستقرون فيها (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) قال أهل اللغة من الكوفية والبصرية : الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار والشهيق بمنزلة آخر نهيقه ، قال رؤبة :
حشرج في الصدر صهيلا أو شهق |
|
حتى يقال ناهق وما نهق |
وقال ابن فارس : الزفير إخراج النفس والشهيق رده ، قال الشماخ في حمار وحش :
بعيد مدى التطريب أول صوته |
|
زفير ويتلوه شهيق محشرج |
وقال الراغب : الزفير ترديد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه من زفر فلان إذا حمل حملا بمشقة فتردد فيه نفسه ، ومنه قيل : للإماء الحاملات الماء : زوافر والشهيق طول الزفير وهو رد النفس ، والزفير مدة ، وأصله من جبل شاهق أي متناه في الطول.
وعن السائب أن الزفير للحمير والشهيق للبغال وهو غريب ، ويراد بهما الدلالة على كربهم وغمهم وتشبيه حالهم بحال من استولت على قلبه الحرارة وانحصر فيه روحه ، أو تشبيه أصواتهم بأصوات الحمير ففي الكلام استعارة تمثيلية أو استعارة مصرحة ، والمأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : يريد ندامة ونفسا عاليا وبكاء لا ينقطع ، وقرأ الحسن «شقوا» بضم الشين فاستعمل متعديا لأنه يقال : شقاه الله تعالى كما يقال أشقاه ، وجملة (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) إلخ مستأنفة كأن سائلا قال : ما شأنهم فيها؟ فقيل لهم فيها كذا وكذا ، وجوّز أن تكون منصوبة المحل على الحالية من النار أو من الضمير في الجار والمجرور كقوله عزوجل : (خالِدِينَ فِيها) خلا أنه إن أريد حدوث كونهم في النار فالحال مقدرة (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) أي مدة دوامهما ، وهذا عبارة عن التأبيد ونفي الانقطاع