والتأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء ، ألا ترى أنك إذا قلت مكثت يوم الخميس في البستان إلا ثلاث ساعات جاز أن يكون ذلك الزمان الواقع فيه عدم المكث من أوله ومن آخره ، وهؤلاء وإن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم ، ولا يقال : فعلى هذا لا يكون قوله سبحانه : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منفية عن قسيمه لأن ذلك الشرط حيث الانفصال حقيقي أو مانع من الجمع ، وهاهنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون من القسمين وأن حالهم لا تخلو عن السعادة والشقاوة ، وذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص واحد باعتبارين انتهى ، وهو ما ذكره الإمام وآثره القاضي ، واعترض بأنه لا دلالة في اللفظ على المبدأ المعين ولو سلم فالاستثناء يقتضي إخراجا عن حكم الخلود وهو لا محالة بعد الدخول ، فكيف ينتقض بما سبق عليه؟ كيف وقد سبق قوله تعالى : في الجنة؟ ثم قيل : فإن قلت : زمان تفرقهم عن الموقف هو الابتداء وهو آخر يوم يأتي قلت : إن ادعى أن الابتداء من ابتداء ذلك الزمان جاز أن يسلم دلالة اللفظ عليه ولا ينفع لأن الكل في الدارين غير خالدين على هذا التقدير ، وأما جعل ابتداء المدة من انتهائه فلا ، وبأن تقابل الحكمين يدل على تقابل القسمين بمعنى منع الجمع مطلقا ؛ وأجيب ـ بعد غمض العين عما في ذلك من الخروج عن آداب المناظرة ـ بأن مبدأ زمان خلود أهل الجنة من زمان دخول أهل النار في النار ، ويدل على ذلك اتحاد معيار الخلودين ، وهو (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) فإنه يدل على زمان خلودهما ولا اتحاد مع الاختلاف في المبدأ ، والاستثناء عن حكم الخلود من مبدأ معين يكون بالإخراج عن حكم الدخول الذي يتضمنه الخلود فيها لا محالة.
وخلاصة المعنى على هذا أن السعداء كلهم خالدون في الجنة من زمان دخول أهل النار في النار إلا العصاة منهم الذين أراد الله سبحانه دخولهم في النار مدة معينة علمها عنده جل وعلا ، وما ذكر من حديث تقابل الحكمين إن أريد تقابلهما بمعنى منع الجمع فلا تقابل فيهما بهذا المعنى لاجتماعهما في العصاة ، وإن أريد مطلقا فلا دلالة على تقابل القسمين بذلك المعنى انتهى.
ولا يخفى على المنصف ما في ذلك القول من التكلف ومخالفة الظاهر والانتصار له بما ذكر لا يجديه نفعا ، وقيل : هو استثناء من الضمير المتقدم إلا أن الحكم الخلود في عذاب النار ، وكذا يقال فيما بعد : إن الحكم فيه الخلود في نعيم الجنة وأهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير وغيره من العذاب أحيانا وكذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى منها كالاتصال بجناب القدس والفوز برضوان الله تعالى الذي هو أكبر وما يتفضل به عليهم سوى ثواب الجنة مما لا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى ، وإلى هذا ذهب الزمخشري سالا سيف البغي والاعتزال ، وقد رده العلامة الطيبي وأطال الكلام في ذلك.
وقال صاحب الكشف : إن ذلك في أهل النار ظاهر لأنهم ينقلون من حر النار إلى برد الزمهرير ، والرد بأن النار عبارة عن دار العقاب غير وارد لأنا لا ننكر استعمال النار فيها تغليبا أما دعوى الغلبة حتى يهجر الأصل فكلا ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] (ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [التحريم : ٦]؟ وكم وكم ، وأما رضوان الله تعالى عن أهل الجنة وهم فيها فيأبى الاستثناء كيف وقوله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها) لا يدل بظاهره على أنهم منعمون بها فضلا عن انفرادها بتنعمهم إلا أن يخصص بجنة الثواب لا محض التفضل ، وكفاه بطلانا التخصيص من غير دليل ، واعترض بأن لك أن تقول : هجر الأصل في الآيتين اللتين ذكرتا علم من الوصف ، وفي هذه الآية ذكرها في مقابلة الجنة يعضد أن المراد بها دار العقاب مطلقا.
وقيل : إن الاستثناء مفرغ من أعم الأوقات و (ما) على أصلها لما لا يعقل وهو الزمان والحكم الكون في