الدين بقرينة المقام ، وقيل : المراد ما يشمل الاختلاف في العقائد والفروع وغيرهما من أمور الدين لعدم ما يدل على الخصوص في النظم فالاستثناء في قوله سبحانه : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) متصل على الأول وهو الذي اختاره أبو حيان وجماعة وعلى الثاني منقطع حيث لم يخرج من رحمة الله تعالى من المختلفين كأئمة أهل الحق فإنهم أيضا مختلفون فيما سوى أصول الدين من الفروع ، وإلى هذا ذهب الحوفي ومن تبعه.
(وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) أي الناس ، والإشارة ـ كما روي عن الحسن ، وعطاء ـ إلى المصدر المفهوم من (مُخْتَلِفِينَ) ونظيره إذا نهي السفيه جرى إليه كأنه قيل : وللاختلاف خلق الناس على معنى لثمرة الاختلاف من كون (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) [الشورى : ٧] خلقهم ، واللام لام العاقبة والصيرورة لأن حكمة خلقهم ليس هذا لقوله سبحانه : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم على ارتكاب الباطل كذا قال غير واحد ، وروي عن الإمام مالك ما يقتضيه ، وعندي أنه لا ضير في الحمل على الظاهر ولا منافاة بين هذه الآية والآية التي ذكروها لما ستعلمه إن شاء تعالى من تفسيرها في الذاريات ، وما يروى فيها من الآثار وأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه والتعذيب أو الإثابة ليس إلّا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي ، وربما يرجع هذا بالآخرة إلى أن التعذيب والإثابة من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب أو المثاب في نفسه ، ومن هنا قالوا : إن المعصية والطاعة أمارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيتان لهما ، وبذلك يندفع قولهم : ولأنه لو خلقهم له لم يعذبهم ، ولما قرّرناه شواهد كثيرة من الكتاب والسنة لا تخفى على المستعدين لإدراك الحقائق ، وقيل ضمير : (خَلَقَهُمْ) لمن باعتبار معناه ، والإشارة للرحمة المفهومة من (رَحِمَ) ، والتذكير لتأويلها بأن والفعل أو لكونها بمعنى الخير ، وروي ذلك عن مجاهد وقتادة وروي عن ابن عباس أن الضمير للناس والإشارة للرحمة والاختلاف أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم (خَلَقَهُمْ) ، وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] واللام على هذا قيل : بمعنى مجازي عام للمعنى الظاهر والصيرورة وعلى ما قبله معناها ، وأظهر الأقوال في الإشارة والضمير ما قدمناه ، والقولان الآخران دونه ، وأما القول بأن الإشارة لما بعد ، وفي الكلام تقديم وتأخير أي ـ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم إلخ أي لملء جهنم خلقهم ـ فبعيد جدا من تراكيب كلام العرب ومن هذا الطرز ما قيل : إن ذلك إشارة إلى شهود ذلك اليوم المشهود وكذا ما قيل : إنه إشارة إلى قوله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) [هود : ١٠٥] أو إلى الشقاوة والسعادة المفهومتين من ذلك ، أو إلى أن يكون فريق في الجنة وفريق في السعير ، أو إلى النهي المفهوم من قوله سبحانه : (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ) ، أو إلى الجنة والنار أو إلى العبادة إلى غير ذلك من الأقوال التي يتعجب منها.
وذهب بعض المحققين في معنى الآية إلى أن المراد من الوحدة الوحدة في الدين الحق ، ومن الاختلاف الاختلاف فيه على معنى المخالفة له كما في قوله تعالى : (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [البقرة : ٢١٣] والمراد ـ بمن رحم ـ الذين هداهم الله تعالى ولم يخالفوا الحق ، والإشارة للاختلاف بمعنى المخالفة ، وضمير (خَلَقَهُمْ) للذين بقوا بعد الثنيا وهم المختلفون المخالفون ، واللام للعاقبة كأنه قيل : ولو شاء ربك لجعل الناس على الحق ودين الإسلام لكنه لم يشأ فلم يجعل ، ولا يزالون مخالفين للحق إلّا قوما هداهم سبحانه بفضله فلم يخالفوا الحق ، ولما ذكر من الاختلاف خلق المختلفين المخالفين ولا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر وإن أخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن مجاهد ما يقتضي بعضه.
ومن الغريب ما روي عن الحسن أن المراد من الاختلاف الاختلاف في الأرزاق والأحوال وتسخير بعضهم بعضا ، وقال ابن بحر : المراد أن بعضهم يخلف بعضا فيكون الآتي خلفا للماضي ، ومنه ما اختلف الجديدان أي ما