(وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ) أي جهتكم وحالكم التي أنتم عليها (إِنَّا عامِلُونَ) على جهتنا وحالنا التي نحن عليها (وَانْتَظِرُوا) بنا الدوائر (إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) أن ينزل بكم نحو ما نزل بأمثالكم من الكفرة ، وصيغة الأمر في الموضعين للتهديد والوعيد ، والآيتان محكمتان.
وقيل : المراد الموادعة فهما منسوختان (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي أنه سبحانه يعلم كل ما غاب في السماوات والأرض ولا يعلم ذلك أحد سواه جلّ وعلا (وَإِلَيْهِ) لا إلى غيره عزّ شأنه (يُرْجَعُ الْأَمْرُ) أي الشأن (كُلُّهُ) فيرجع لا محالة أمرك وأمرهم إليه ، وقرأ أكثر السبعة «يرجع» بالبناء للفاعل من رجع رجوعا (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) فإنه سبحانه كافيك ، والفاء لترتيب الأمر بالعبادة والتوكل على كون مرجع الأمور كلها إليه ، وقيل : على ذلك ، وكونه تعالى عالما بكل غيب أيضا ، وفي تأخير الأمر بالتوكل عن الأمر بالعبادة تنبيه على أن التوكل لا ينفع دونها وذلك لأن تقدمه في الذكر يشعر بتقدمه في الرتبة أو الوقوع.
وقيل : التقديم والتأخير لأن المراد من العبادة امتثال سائر الأوامر من الإرشاد والتبليغ وغير ذلك ؛ ومن التوكل التوكل فيه كأنه قيل : امتثل ما أمرت به وداوم على الدعوة والتبليغ وتوكل عليه في ذلك ولا تبال بالذين لا يؤمنون ولا يضق صدرك منهم (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بتاء الخطاب على تغليب المخاطب ، وبذلك قرأ نافع ، وأبو عامر وحفص وقتادة والأعرج وشيبة وأبو جعفر والجحدري أي وما ربك بغافل عما تعمل أنت وما يعملون هم فيجازي كلا منك ومنهم بموجب الاستحقاق ، وقرأ الباقون من السبعة بالياء على الغيبة وذلك ظاهر ، هذا وفي زوائد الزهد لعبد الله ابن أحمد بن حنبل وفضائل القرآن لابن الضريس عن كعب أن فاتحة التوراة فاتحة الأنعام وخاتمتها حاتمة هود (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إلى آخر السورة ، والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌ) كامل الشقاوة ومنهم سعيد كامل السعادة (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) أي نار الحرمان عن المراد وآلام ما اكتسبوه من الآثام وهو عذاب النفس (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فيخرجون من ذلك إلى ما هو أشد منه من نيران القلب وذلك بالسخط والإذلال ونيران الروح وذلك بالحجب واللعن والقهر (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) لا حجر عليه سبحانه (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ) أي جنة حصول المرادات واللذات وهي جنة النفس (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) فيخرجون من ذلك إلى ما هو أعلى وأعلى من جنات القلب في مقام تجليات الصفات وجنات الروح في مقام الشهود وهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقد يحمل التنوين على النوعية ويؤول الاستثناء بخروج الشقي من النار بالترقي من مقامه إلى الجنة بزكاء نفسه عما حال بينه وبينها (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) أي في القيام بحقوق الحق والخلق وذلك بالمحافظة على حقوقه تعالى والتعظيم لأمره والتسديد لخلقه مع شهود الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة من غير إخلال ما بشرط من شرائط التعظيم (وَمَنْ تابَ) عن إنيته وذنب وجوده معك من المؤمنين الموحدين إلى مقام البقاء بعد الفناء ، وقيل : إن الاستقامة المأمور بها صلى الله تعالى عليه وسلم فوق الاستقامة المأمور بها من معه عليه الصلاة والسلام والعطف لا يقتضي أكثر من المشاركة في مطلق الفعل كما يرشد إليه قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) على قول ، ومن هنا قال الجنيد قدسسره : الاستقامة مع الخوف والرجاء حال العابدين والاستقامة مع الهيبة والرجاء حال المقربين ، والاستقامة مع الغيبة عن رؤية الاستقامة حال العارفين (وَلا تَطْغَوْا) ولا تخرجوا عما حدّ لكم من الشريعة فإن الخروج عنها زندقة (وَلا تَرْكَنُوا) أي لا تميلوا أدنى ميل (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهي النفوس المظلمة المائلة إلى الشرور في أصل الخلقة كما قيل :