إن (تابَ) مقدر في نظم الكلام لتغاير هذه التوبة والتوبة السابقة وفيه نظر ، أي وتاب على الثلاثة (الَّذِينَ خُلِّفُوا) أي خلف أمرهم وأخر عن أمر أبي لبابة وأصحابه حيث لم يقبل منهم معذرة مثل أولئك ولا ردت ولم يقطع في شأنهم بشيء إلى أن نزل الوحي بهم ، فالإسناد إليهم إما مجاز أو بتقدير مضاف في النظم الجليل ، وقد يفسر المتعدي باللازم أي الذين تخلفوا عن الغزو وهم : كعب بن مالك من بني سلمة ، وهلال بن أمية من بني واقف ، ومرارة بن الربيع من بني عمرو بن عوف ، ويقال فيه ابن ربيعة ، وفي مسلم ، وغيره وصفه بالعامري وصوب كثير من المحدثين العمري بدله.
وقرأ عكرمة ، وزر بن حبيش وعمرو بن عبيد «خلفوا» بفتح الخاء واللام خفيفة أي خلفوا الغازين بالمدينة أو فسدوا من الخالفة وخلوف الفم ، وقرأ علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق رضي الله تعالى عنهم وأبو عبد الرحمن السلمي «خالفوا» ، وقرأ الأعمش : «وعلى المخلفين» وظاهر قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) أنه غاية للتخليف بمعنى تأخير الأمر أي أخر أمرهم إلى أن ضاقت عليهم الأرض (بِما رَحُبَتْ) أي برحبها وسعتها لإعراض الناس عنهم وعدم مجالستهم ومحادثتهم لهم لأمر النبي صلىاللهعليهوسلم لهم بذلك وهو مثل لشدة الحيرة ، والمراد أنهم لم يقروا في الدنيا مع سعتها وهو كما قيل :
كأن بلاد الله وهي فسيحة |
|
على الخائف المطلوب كفة حابل |
(وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) أي قلوبهم وعبر عنها بذلك مجازا لأن قيام الذوات بها ، ومعنى ضيقها غمها وحزنها كأنها لا تسع السرور لضيقها ، وفي هذا ترق من ضيق الأرض عليهم إلى ضيقهم في أنفسهم وهو في غاية البلاغة (وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ) أي علموا أن لا ملجأ من سخطه إلا إلى استغفاره والتوبة إليه سبحانه ، وحمل الظن على العلم لأنه المناسب لهم (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) أي وفقهم للتوبة (لِيَتُوبُوا) أو أنزل قبول توبتهم في القرآن وأعلمهم بها ليعدهم المؤمنون في جملة التائبين أو رجع عليهم بالقبول والرحمة مرة بعد أخرى ليستقيموا على التوبة ويستمروا عليها ، وقيل : التوبة ليست هي المقبولة ، والمعنى قبل توبتهم من التخلف ليتوبوا في المستقبل إذ صدرت منهم هفوة ولا يقنطوا من كرمه سبحانه (إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ) المبالغ في قبول التوبة لمن تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة (الرَّحِيمُ) المتفضل عليهم بفنون الآلاء مع استحقاقهم لأفانين العقاب.
أخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والبيهقي من طريق الزهري قال : أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : «سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزاة تبوك قال كعب : لم أتخلف عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزوة تبوك غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحدا تخلف عنها إنما خرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد عير قريش حتى جمع الله تعالى بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر ، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلما يريد غزاة إلا ورى بغيرها حتى كانت الغزوة فغزاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في حر شديد ، واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز ، واستقبل عدوا كثيرا فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم وأخبرهم بوجهه الذي يريد والمسلمون مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ ـ يريد الديوان ـ قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما