عني بالأمر إلّا العاقبة ، نعم صدر كلامه ظاهر فيما ذكر والأمر فيه سهل ، ولعل وجه الأمر بالتأمل في كلام هذا المحقق مجموع ما ذكرناه فتأمل ، ثم إن هذا الإخبار كما يحتمل أن يكون للرد عليهما حسبما ورد في الأثر يحتمل أن يكون تحقيقا لتعبيره وتأكيدا له ، ولا يشكل على الأول أنه لا داعي لجحود الشرابي لأنا نقول على تقدير كذبهما في ذلك : يحتمل أن يكون لمراعاة جانب صاحبه الخباز.
وجاء في بعض الآثار «إن الذي جحد هو الخباز» فحينئذ الأمر واضح. واستدل بذلك على ما هو المشهور من أن الرؤيا تقع كما تعبر ، ولذا قيل : المنام على جناح طائر إذا قص وقع (وَقالَ) أي يوسفعليهالسلام.
(لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ) أوثر على صيغة المضارع مبالغة في الدلالة على تحقيق النجاة حسبما يفيده قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) إلخ ، وهو السر في إيثار ما عليه النظم الكريم على أن يقال : للذي ظنه ناجيا (مِنْهُمَا) أي من صاحبيه ، وإنما ذكر بوصف النجاة تمهيدا لمناط التوصية بالذكر بما يدور (١) عليه الامتياز بينه وبين صاحبه المذكور بوصف الهلاك ، والظانّ هو يوسف عليهالسلام لا صاحبه ، وإن ذهب إليه بعض السلف لأن التوصية لا تدور على ظنّ الناجي بل على ظنّ يوسف عليهالسلام وهو بمعنى اليقين كما في قوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ونظائره.
ولعل التعبير به من باب إرخاء العنان والتأدب مع الله تعالى ، فالتعبير على هذا بالوحي كما ينبئ عنه قوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) إلخ ، وقيل : هو بمعناه ، والتعبير بالاجتهاد والحكم بقضاء الأمر أيضا اجتهادي ، واستدل به من قال : إن تعبير الرؤيا ظني لا قطعي ، والجار والمجرور إما في موضع الصفة ـ لناج ـ أو الحال من الموصول ولا يجوز أن يكون متعلقا ـ بناج ـ لأنه ليس المعنى عليه (اذْكُرْنِي) بما أنا عليه من الحال والصفة.
(عِنْدَ رَبِّكَ) سيدك ، وروي أنه لما انتهى بالناجي في اليوم الثالث إلى باب السجن قال له : أوصني بحاجتك ، فقال عليهالسلام : حاجتي أن تذكرني عند ربك وتصفني بصفتي التي شاهدتها (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) أي أنسى ذلك الناجي بوسوسته وإلقائه في قلبه أشغالا حتى يذهل عن الذكر ، وإلّا فالإنساء حقيقة لله تعالى ، والفاء للسببية فإن توصيته عليهالسلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه وتعالى كانت باعثة لما ذكر من إنسائه (ذِكْرَ رَبِّهِ) أي ذكر يوسف عليهالسلام عند الملك ، والإضافة لأدنى ملابسة ، ويجوز أن تكون من إضافة المصدر إلى المفعول بتقدير مضاف أي ذكر إخبار ربه (فَلَبِثَ) أي فمكث يوسف عليهالسلام بسبب ذلك القول أو الإنساء (فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) البضع ما بين الثلاث إلى التسع كما روي عن قتادة وعن مجاهد أنه من الثلاث إلى السبع ، وقال أبو عبيدة : من الواحد إلى العشرة ، ولا يذكر على ما قال الفراء : إلّا مع العشرات دون المائة والألف ، وهو مأخوذ من البضع بمعنى القطع ؛ والمراد به هنا في أكثر الأقاويل سبع سنين وهي مدة لبثه كلها فيما صححه البعض ، وسنتان منها كانت مدة لبثه بعد ذلك القول ، ولا يأبى ذلك فاء السببية لأن لبث هذا المجموع مسبب عما ذكر ، وقيل : إن هذه السبع مدة لبثه بعد ذلك القول ، وقد لبث قبلها خمسا فجميع المدة اثنتا عشرة سنة ، ويدل عليه خبر «رحم الله تعالى أخي يوسف لو لم يقل : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لما لبث في السجن سبعا بعد خمس» (٢) ، وتعقب بأن الخبر لم يثبت بهذا اللفظ وإنما
__________________
(١) ولذا لم يذكره بعنوان التقرب المفهوم من التعبير المذكور وإن كان أدخل وأدعى إلى تحقيق ما وصاه به ا ه منه.
(٢) وقيل : إنه لبث خمس سنين ، وقد تقدم هذا للقول فتذكر ا ه منه.