من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلاله ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة ، وقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته ، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق ، والنمط اللائق حسبما تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولا ظاهرا ، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته ويهيئ أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الأفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه ، وقيل : لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبني على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف وإلا ففيه نظر. وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على ما فيه مما لا يقبله المحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي ، وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير (اسْتَوى) وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن ، وعلى كل حال فإيثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره منه تعالى ، وقوله سبحانه : (ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع بمن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه ، فلا حاجة إلى أن يقال : التقدير ما من شفاعة لشفيع ، وفي ذلك أيضا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير ، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة. وذهب القاضي إلى أن فيه ردا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما ادعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لا يؤذن لهم ، وما قيل : إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال : مراده أن الأصنام لا تدرك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديهي ، وقوله عزّ شأنه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) استئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه : (فَاعْبُدُوهُ) والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخبر به عنه وهو الله وربكم فإنهما خبران لذلكم ، وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأفاد أن لا رب غيره ولا معبود سواه ، ويجوز أن يكون الاسم الجليل نعتا لاسم الإشارة و (رَبَّكُمُ) خبره وأن يكون هو الخبر و (رَبَّكُمُ) بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الانحصار ، وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته سبحانه وحده ، أي فاعبدوه سبحانه من غير أن تشركوا به شيئا من ملك أو نبي فضلا عن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ، وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل : من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) أي أتعلمون أن الأمر كما فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده ، وإيثار (تَذَكَّرُونَ) على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد التفات وإخطار بالبال ، وقوله سبحانه : (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) كالتعليل لوجوب العبادة ، والجار والمجرور خبر مقدم و (مَرْجِعُكُمْ) مبتدأ مؤخر وهو مصدر ميمي لا اسم مكان خلافا لمن وهم فيه ، و (جَمِيعاً)