الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية ، وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل ما لا يخفى كذا حققه بعض الأجلة وهو من الحسن بمكان ، وعلى الثاني لو أن قرآنا فعلت به هذه الأفاعيل العجيبة لما آمنوا به كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى) [الأنعام : ١١١] الآية ، والكلام على ما استظهره الشهاب على التقديرين حقيقة على سبيل الفرض كقوله :
ولو طار ذو حافر قبلها |
|
لطارت ولكنه لم يطر |
وجعله على الأول تمثيلا كالآية المذكورة هناك على ما قال لا وجه له ، وتمثيل الزمخشري بها لبيان أن القرآن يقتضي غاية الخشية ، وصنيع كثير من المحققين ظاهر في ترجيح التقدير الأول ، وفي الكشف لو تأملت في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجدت بناء الكلام فيها على حقية الكتاب المجيد واشتماله على ما فيه صلاح الدارين وإن السعيد كل السعيد من تمسك بحبله والشقي كل الشقي من أعرض عنه إلى هواه حيث قال تعالى أولا : (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) [الرعد : ١] ثم تعجب من إنكارهم ذلك بقوله سبحانه : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ثم قال تعالى : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) [الرعد : ١٤] فأثبت حقيته بالحجة ، ثم قال جل وعلا : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) [الرعد : ١٧] وهو مثل للحق الذي هو القرآن ومن انتفع به على ما فسره المحققون ، ثم صرح تعالى بنتيجة ذلك كله بالبرهان النير في قوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) [الرعد : ١٩] ثم أعاد جل شأنه قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) دلالة على إنكارهم أول ما أتاهم وبعد رصانة علمهم بحقيته فهم متمادون في الإنكار ، ثم كر إلى بيان الحقية فيما نحن فيه وبالغ المبالغة التي ليس بعدها سواء جعل داخلا في حيز القول أو جعل ابتداء كلام منه تعالى تذييلا وهو الأبلغ ليكون مقصودا بذاته في الإفادة المذكورة مؤكدا لمجموع ما دل عليه قوله تعالى : و (كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ) من تعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام وما أنزل عليه وشدة إنكارهم وتصميمهم لا علاوة في أن لم يبق إلا التوكل والصبر على مجاهدتكم إذ لا وراء هذا القرآن حتى أجيء به لتسلموا ثم فخمه ونعى عليهم مكابرتهم بقوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) وأيد حقية الكتاب فيمن أنزل عليه في خاتمة السورة بقوله جل وعلا : (كَفى بِاللهِ) إلى قوله سبحانه : (عِلْمُ الْكِتابِ) تنبيها على أنه مع ظهور أمره في إفادة الحقائق العرفانية والخلائق الإيمانية لا يعلم حقيقة ما فيه إلا من تفرد به وبإنزاله تبارك وتعالى اه.
وفي سبب النزول وستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى مما يؤيد الثاني ، والظاهر على حققه وأشرنا إليه أولا أن الآية على الأول متعلقة بقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) وهي على الثاني متعلقة بقوله سبحانه (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) بيانا لتصميمهم في كفرهم وإنكارهم الآيات ومن أتى بها لا بذلك لبعد المرمى من غير ضرورة ، وقوله تعالى : (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) أي له الأمر الذي يدور عليه فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد حسبما تقتضيه الحكم البالغة ، قيل : إضراب عما تقتضيه الشرطية من معنى النفي لا بحسب منطوقه بل باعتبار موجبه ومؤداه أي لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده ، فالإضراب ليس بمتوجه إلى كون الأمر لله تعالى بل إلى ما يؤدي إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة ، وقيل : إن حاصل الإضراب لا يكون تسيير الجبال مع ما ذكر بقرآن بل يكون بغيره مما أراده الله تعالى فإن الأمر له سبحانه جميعا ، وزعم بعضهم أن الأحسن العطف على مقدر أي ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعا ، ومعنى قوله سبحانه : (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) أفلم يعلموا وهي ـ كما قال القاسم بن معن لغة هوازن ، وقال ابن الكلبي : هي لغة حي من النخع ، وأنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي :