(إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعا وكلاهما مروي عن مجاهد ، وأصله من احاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالبا ، والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. ورد بأن المصدر من (أَنْ) والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضا أي راكضا دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة و (أَنْ) مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير. وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية ، ويؤول ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر. وفي البحر أنه لو قدر كون (أَنْ) والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفا ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك ، وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي :
وتالله ما إن شهلة (١) أم واحد |
|
بأوجد مني أن يهان صغيرها |
وقيل : من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم : أقسمت عليك الا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك ، والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضا فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت ، وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا صح وظهر ارادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأنه لا يمكن لإخوة يوسف عليهالسلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال : إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الإتيان فيها ، وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله : وأنت تدري أنه حيث لم يكن الإتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك : لألزمنك إلى أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليهالسلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت : صل إلا أن تكون محدثا بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك : لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الاخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه ، فآل المعنى إلى التأويل المذكور اه.
وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه : الأول أنه لو كان المراد من قوله : (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) الأخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور ـ أعني التأويل بالنفي ـ كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده. الثاني أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله : لأحجن إلخ الأخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي. الثالث أنه إن أراد من قوله : كان اعتبار الأحوال إلخ أن الإتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع ، وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضا وليس المدعى إلا ذاك اه وهو كما ترى فتبصر ، ثم إنهم أجابوه عليهالسلام إلى ما أراد (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ) عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليهالسلام (قالَ)
__________________
(١) امرأة شهلة بالشين إذا كانت نصفا عاقلة اه منه.