عرضا لثقته بالله تعالى وحثا لهم على مراعاة حلفهم به عزوجل (اللهُ عَلى ما نَقُولُ) في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين ، وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدي إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته (وَكِيلٌ) أي مطلع رقيب ، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه ، قيل : والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك.
(وَقالَ) ناصحا لهم لما عزم على إرسالهم جميعا (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا) مصر (مِنْ بابٍ واحِدٍ) نهاهم عليهالسلام عن ذلك حذرا من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا إذا دخلوا كوكبة واحدة ، وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى ، وجوز أن يكون خوفه عليهالسلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليهالسلام ولم يكن فيهم في المرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف ، والقول أنه عليهالسلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلا ، ومثله ما قيل : إن ذلك كان طمعا أن يتسمعوا خبر يوسف عليهالسلام ؛ والعين حق كما صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصح أيضا بزيادة «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» و «إذا استغسلتم فاغتسلوا» وقد ورد أيضا «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وقد كان صلىاللهعليهوسلم يعوذ الحسنين رضي الله تعالى عنهما بقوله : «أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وكان يقول : «كان أبو كما يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق عليهمالسلام».
ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لا بأس باطلاعك عليه ، وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني ، فالأنواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات والكرامات والإلهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك. أما النوع الأول ـ أعني تأثير النفساني في مثله ـ فكتأثير المبادئ العالية في النفوس الإنسانية بإفاضة العلوم والمعارف ، ويندرج ي ذلك صنفان : أحدهما ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقي إلى النفس المستعدة لذلك كمال العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلىاللهعليهوسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلو من قبل كتابا ولا يخطه بيمينه.
وثانيهما ما يتعلق بالتخيل القوي بأن يلقي إلى من يكون مستعدا له ما يقوى به على تخيلات الأمور الماضية والاطلاع على المغيبات المستقبلة ، والمنامات والإلهامات داخلة أيضا تحت هذا النوع ، وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تق وقوتهم العقلية فتتخيل ما ليس بموجود في الخارج موجودا فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها ؛ وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه. وأما النوع الثاني ـ أعني تأثير النفساني في الجسماني ـ فكتأثير النفوس الإنسانية في الأبدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادئ العالية كأن يستسقي للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون ، ويندرج في هذا صنف من السحر أيضا كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلا فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض