عليهالسلام وذكر بنيه في قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَ) وتعقب بأن ذلك يقتضي ضمير الجماعة في (رَبِّ إِنَّهُنَ) إلخ مع أنه جيء فيه بضمير الواحد ، فالوجه أن ذلك لأن الدعاء المصدر به وما هو بصدد تمهيد مبادئ إجابته من قوله : (إِنِّي أَسْكَنْتُ) إلخ متعلق بذريته ، فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسئول ، والتأكيد لمزيد الاعتناء فيما قصده من الخبر و (مِنْ) في قوله (مِنْ ذُرِّيَّتِي) بمعنى بعض وهي في تأويل المفعول به أي أسكنت بعض ذريتي ، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا والجار والمجرور صفته سدت مسده أي أسكنت ذرية من ذريتي و (مِنْ) تحتمل التبعيض والتبيين. وزعم بعضهم أن (مِنْ) زائدة على مذهب الأخفش لا يرتضيه سليم البصيرة كما لا يخفى ، والمراد بالمسكن إسماعيل عليهالسلام ومن سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم ، والداعي للتعميم على ما قيل قوله الآتي : (لِيُقِيمُوا) إلخ ، ولا يخفى أن الإسكان له حقيقة ولأولاده مجاز ، فمن لم يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز يرتكب لذلك عموم المجاز ، وهذا الإسكان بعد ما كان بينه عليهالسلام وبين أهله ما كان.
وذلك أن هاجر أم إسماعيل كانت أمة من القبط لسارة فوهبتها من إبراهيم عليهالسلام فلما ولدت له إسماعيل غارت فلم تقاره على كونه معها فأخرجها وابنها إلى أرض مكة فوضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ثم قفى منطلقا فتبعته هاجر فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء قالت له ذلك مرارا وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم (١) قالت : إذن لا يضيعنا. ثم رجعت ، وانطلق عليهالسلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرون استقبل بوجهه البيت وكان إذ ذاك مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ) ـ إلى ـ (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) ثم إنها جعلت ترضع ابنها وتشرب مما في السقاء حتى إذا نفد عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلبط فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدا فلم تر ، فهبطت حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزته ثم أتت المروة فقامت عليها ونظرت هل ترى أحدا فلم تر ففعلت ذلك سبع مرات ولذلك سعى الناس بينهما سبعا ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتا فقالت : صه تريد نفسها ثم تسمعت فسمعت أيضا فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه حتى ظهر الماء فجعلت تحوضه وتغرف منه في سقائها وهو يفور فشربت وأرضعت ولدها وقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيت الله تعالى يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله سبحانه لا يضيع أهله ، ثم إنه مرت رفقة من جرهم فرأوا طائرا عائفا فقالوا : لا طير إلا على الماء فبعثوا رسولهم فنظر فإذا بالماء فأتاهم فقصدوه وأم إسماعيل عنده ، فقالوا : أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت ، فلما أدرك إسماعيل عليهالسلام زوجوه امرأة منهم وتمام القصة في كتب السير. (بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو وادي مكة شرفها الله تعالى ، ووصفه بذلك دون غير مزروع للمبالغة لأن المعنى ليس صالحا للزرع ، ونظيره قوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر : ٢٨] وكان ذلك لحجريته ، قال ابن عطية : وإنما لم يصفه عليهالسلام بالخلو عن الماء مع أنه حاله إذ ذاك لأنه كان علم أن الله تعالى لا يضيع إسماعيل عليهالسلام وأمه في ذلك الوادي وأنه سبحانه يرزقهما الماء فنظر عليهالسلام النظر البعيد ، وقال أبو
__________________
(١) وبهذا يبطل استدلال بعض غلاة المتصوفة بالآية على أنه يجوز للإنسان أن يضع ولده وعياله في أرض مضيعة اتكالا اه منه.