وقد شاع ذلك من أخبار القصاص وخبرهم واقع عن درجة القبول ولو طاروا إلى النسر الطائر ، ومثل ذلك فيما أرى خبر المتهمة فافهم والله تعالى أعلم (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) تثبيت له صلىاللهعليهوسلم على ما هو عليه من الثقة بالله سبحانه والتيقن بإنجاز وعده تعالى بتعذيب الظالمين المقرون بالأمر بانذارهم كما يفصح عنه الفاء ، وقال الطيبي : واستحسنه التلميذ أنه يجوز أن يحمل الوعد على المفاد بقوله تعالى : (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) وقد جعله وجها آخر لما ذكره الزمخشري من تفسيره له بقوله تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] و (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] وفيه نظر لأنه لا اختصاص لذلك ـ كما قيل ـ بالتعذيب لا سيما الأخروي ، وإضافة (مُخْلِفَ) إلى الوعد عند الجمهور من إضافة اسم الفاعل إلى المفعول الثاني كقولهم: هذا معطي درهم زيدا ، وهو لما كان يتعدى إلى اثنين جازت إضافته إلى كل منهما فينصب ما تأخر ، وأنشد بعضهم نظيرا لذلك قوله :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه |
|
وسائره باد إلى الشمس أجمع |
وذكر أبو البقاء أن هذا قريب من قولهم : يا سارق الليلة أهل الدار. وفي الكشاف أن تقديم الوعد ليعلم أنه تعالى لا يخلف الوعد أصلا كقوله سبحانه : (لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ٩ ، الرعد : ٣١] ثم قال جل شأنه : (رُسُلَهُ) ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحدا وليس من شأنه إخلاف المواعيد كيف يخلف رسله الذين هم خيرته وصفوته.
ونظر فيه ابن المنير بأن الفعل إذا تقيد بمفعول انقطع احتمال إطلاقه وهو هنا كذلك فليس تقديم الوعد دالا على إطلاق الوعد بل على العناية والاهتمام به لأن الآية سيقت لتهديد الظالمين بما وعد سبحانه على ألسنة رسله عليهمالسلام فالمهم ذكر الوعد وكونه على ألسنة الرسل عليهمالسلام لا يتوقف عليه التهديد والتخويف. وقال صاحب الإنصاف : إن هذا النظر قوي إلا أن ما اعترض عليه هو القاعدة عند أهل البيان ، كما قال الشيخ عبد القاهر في قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠٠] أنه قدم (شُرَكاءَ) للإيذان بأنه لا ينبغي أن يتخذ لله تعالى شركاء مطلقا ثم ذكر «الجن» تحقيرا أي إذا لم يتخذ من غير الجن فالجن أحق بأن لا يتخذوا.
وتعقب بأنه لا يدفع السؤال بل يؤيده ، وكذا ما ذكره الفاضل الطيبي فإنه مع تطويله لم يأت بطائل فالوجه ما في الكشف من أن ذلك الإعلام إنما نشأ من جعل الاهتمام بشأن الوعد فهو ما سيق له الكلام وما عداه تبع ، وإفادة هذا الأسلوب الترقي كإفادة (اشْرَحْ لِي صَدْرِي) [طه : ٢٥] الإجمال والتفصيل. نعم إن الظاهر من حال صاحب الكشاف أنه أضمر فيما قرره اعتزالا وهذه مسألة أخرى ، وقيل : (مُخْلِفَ) هنا متعد إلى واحد كقوله تعالى : (لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) فاضيف إليه وانتصب (رُسُلَهُ) بوعده إذ هو مصدر ينحل إلى أن والفعل وقرأت فرقة «مخلف» وعده رسله بنصب «وعده» وإضافة (مُخْلِفَ) إلى (رُسُلَهُ) ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول ، وهذه القراءة تؤيد إعراب الجمهور في القراءة الأولى وأنه مما يتعدى «مخلف» هنا إلى مفعولين (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر وقادر لا يقادر (ذُو انتِقامٍ) من أعدائه لأوليائه فالجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عن تعذيبهم خاصة كما مرت إليه الإشارة لم يذيل ـ كما قال بعض المحققين ـ بأن يقال : «إن الله لا يخلف الميعاد» بل تعرض لوصف العز والانتقام المشعرين بذلك ؛ والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر.
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم إلى آخره أو معطوف عليه نحو (فَارْتَقِبْ يَوْمَ) [الدخان : ١٠] إلى آخره ، وجعله بعض الفضلاء معمولا لا ذكر محذوفا كما قيل في شأن نظائره ، وقيل : ظرف للانتقام وهو (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) بعينه ولكن له أحوال جمة بذكر كل مرة بعنوان