وقيل : إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم ، وله وجه ، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه : وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب ، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة ، ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة ، وكذا ما أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قال : اطلع علينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال : ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال : إني لما خرجت جاء جبريل عليهالسلام فقال : يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الآية ، وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك ، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.
ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب ، فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه : (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ) إلخ ، وقيل : إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل ، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهمالسلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليهالسلام ، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليهالسلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه ، وكان لقصره عليهالسلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد ، ولذا كان يكنى أبا الضيفان ، واختلف في عددهم كما تقدم ، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي اصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره ، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليهالسلام بل إلى قوم لوط عليهالسلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
وقرأ أبو حيوة «ونبيهم» بإبدال الهمزة ياء (إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ) نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على (نَبِّئْ) أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف ـ لضيف ـ بناء على أنه مصدر في الأصل ، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره ، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى (ضَيْفِ) أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه (فَقالُوا) عند ذلك : (سَلاماً) مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية ، وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما (قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه ، وقوله عليهالسلام هذا كان ـ عند غير واحد ـ بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه ، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير ، وقيل : كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله ، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به