اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من قوله صلىاللهعليهوسلم «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره صلىاللهعليهوسلم بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل : افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيم الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان صلىاللهعليهوسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة. وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة» وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ) دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه ، قيل : وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به صلىاللهعليهوسلم والإشعار بعلة الأمر بالعبادة (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد ، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي ، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه ، والمعنى دم على العبارة ما دمت حيّا من غير إخلال بها لحظة ، وقال ابن بحر : اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلىاللهعليهوسلم ، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود ، وقالوا : إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين ، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء ، أفترى أنه صلىاللهعليهوسلم لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان ، وأيضا لم يزل صلىاللهعليهوسلم ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال : إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) إلخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام ، ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس ، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما ، ثم قال سبحانه : (وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه ، وقوله تعالى شأنه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ) إلخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة.
إذا تغيبت بدا |
|
وإن بدا غيبني |
وعن لسان هذا المقام (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) [طه : ١١٤] اه ، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين