مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها ، وأن قوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ) إلخ في مقابلة (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦] والله تعالى أعلم وأحكم.
ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات : ما قالوه مما ملخصه (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات (وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب.
وقال ابن عطاء : هذه الآية إرشاد له صلىاللهعليهوسلم إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل : أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عزوجل ولم يجر العذاب على ذلك السنن ، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه ، وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال النووي : أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين ، وقال القرشي : هذا قسم بحياة الحبيب صلىاللهعليهوسلم. وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) أي المتفرسين ، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر ، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق ، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية ، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة ، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى إذا أراد فتح الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة ، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف ، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه ، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة ، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه ، وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بإشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيد رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال : آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق ، ولهم في ذلك عبارات أخرى.
(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال : الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة ، وقيل : الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام ، ومعنى كونها مثاني أنها ثنى وكرر ثبوتها له صلىاللهعليهوسلم ، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه ، وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني ، وقيل : معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عزوجل ومواليدها ، وجاء «لا زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وهو عندهم : الذات الجامع لجميع الصفات (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) إلى