نصف الأنفس كأن الأنفس تذوب تعبا ونصبا لما ينالها من المشقة كما يقال لا تقدر على كذا إلا بذهاب جل نفسك أو قطعة من كبدك وهو من المجاز ، وجوز بعضهم أن يكون على تقدير مضاف أي إلا بشق قوى الأنفس ، والاستثناء مفرغ أي لم تكونوا (بالِغِيهِ) بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس ، وجعل أبو البقاء الجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المرفوع في بالغيه أي مشقوقا عليكم وضمير (تَحْمِلُ) للأنعام إلا أن الحمل المذكور باعتبار بعض أنواعها وهي الإبل ومثله كثير ، ومن هنا يظهر ضعف استدلال بعضهم بهذا الاسناد على أن المراد بالأنعام فيما مر الإبل فقط ، وتغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الانعام مدارا للنعم إلى الفعلية المفيدة للحدوث قيل لعله للإشعار بأن هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ خاصة كما سمعت بالإبل وبحسب المتعلق بالمتقلبين في الأرض للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة ، وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع الأصناف وعامة لكافة المخاطبين دائما وفي عامة الأوقات اه. واحتج كما قال الإمام منكر وكرامات الأولياء بهذه الآية لأنها تدل على أن الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلد إلى آخر إلا بشق الأنفس وحمل الأثقال على الجمال. ومثبتو الكرامات يقولون : إن الأولياء قد ينتقلون من بلد إلى آخر بعيد في زمان قليل من غير تعب وتحمل مشقة فكان ذلك على خلاف الآية فيكون باطلا وإذا بطلت في هذه الصورة بطلت في الجميع إذ لا قائل بالفرق.
وأجاب بأنا نخصص عموم الآية بالأدلة الدالة على وقوع الكرامات اه. ولعل القائلين بعدم ثبوت طي المسافة للأولياء يستندون إلى هذه الآية لكن هؤلاء لا ينفون الكرامات مطلقا فلا يصح قوله إذ لا قائل بالفرق ، ومن أنصف علم أن الاستدلال بها على هذا المطلب مما لا يكاد يلتفت إليه بناء على أنها مسوقة للامتنان ويكفي فيه وجود هذا في أكثر الأحايين لأكثر الناس فافهم (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ولذلك أسبغ عليكم النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة العسيرة (وَالْخَيْلَ) هو كما قال غير واحد اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل ، وذكر الراغب أنه في الأصل يطل على الأفراس والفرسان ، وهو عطف على الأنعام أي وخلق الخيل (وَالْبِغالَ) جمع بغل معروف (وَالْحَمِيرَ) جمع حمار كذلك ويجمع في القلة على أحمرة وفي الكثرة على حمر وهو القياس ، وقرأ ابن أبي عبلة برفع «الخيل» وما عطف عليه (لِتَرْكَبُوها) تعليل لخلق المذكورات ، والكلام في تعليل أفعال الله تعالى مبسوط في الكلام (وَزِينَةً) عطف على محل (لِتَرْكَبُوها) فهو مثله مفعول لأجله وتجريده عن اللام دونه لأن الزينة فعل الزائن وهو الخالق تعالى ففاعل الفعلين المعلل والمعلل به واحد بخلاف فاعل الركوب وفاعل المعلل به فشرط النصب الذي اشترطه من اشتراطه موجود في المعطوف دون المعطوف عليه قاله غير واحد ، وذكر بعض المدققين أن في عدم مجيئها على سنن واحد دلالة على أن المقصود الأصلي الأول فجيء بالحروف الموضوعة لذلك وسيق لخطاب وأعيد الضمير للثلاثة في (لِتَرْكَبُوها) وجيء بالثاني تتميما ودلالة على أنه لما كان من مقاصدهم عد في معرض الامتنان وإلا فليس التزين بالعرض الزائل مما يقصده أهل الله تعالى وهم أهل الخطاب بالقصد الأول واعترض ما تقدم بأنه وإن ثبت اتحاد الفاعل لكن لم تتم به شروط صحة النصب لفقد شرط آخر منها وهو المقارنة في الوجود فإن الخلق متقدم على الزينة. وأجيب بأن ذلك على إرادة إرادة الزينة كما قيل في ضربت زيدا تأديبا أن التأديب بتأويل إرادته ، وجوز أبو البقاء كون (زِينَةً) مصدرا لفعل محذوف أي ولتتزينوا بها زينة ، وقال ابن عطية إنه مفعول به لفعل محذوف أي وجعلها زينة ، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قرأ «لتركبوها زينة» بغير واو ، قال صاحب اللوامح إن (زِينَةً) حينئذ نصب على الحال من الضمير في (خَلَقَها) أو من الضمير في (لِتَرْكَبُوها) ولم يعين الضمير وعينه ابن عطية فقال هو