الحواشي الشهابية من أنها كالفذلكة لما قبلها وإما للإشارة إلى أن الأمر ظاهر جدا غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم الضرورية ، وقال بعضهم : يذكرون أن اختلاف طبائع ما ذكر وهيئاته وأشكاله مع اتحاد مادته يدل على الفاعل الحكيم المختار ، وهو ظاهر في أن ما ذكر دليل على إثبات وجود الصانع كما أنه دليل على وحدانيته وهو الذي ذهب إليه الإمام واقتدى به غيره ، ولم يرتضه شيخ الإسلام بناء على أن الخصم لا ينازع في الوجود وإنما ينازع في الوحدانية فجيء بما هو مسلم عنده من صفات الكمال للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية ، وقال لبعضهم : لا مانع من أن يكون المراد الاستدلال بما ذكر من الآيات على مجموع الوجود والوحدانية والخصم ينكر ذلك وإن لم ينكر الوجود وكان في أخذ الوجود في المطلوب إشارة إلى أن القول به مع زعم الشركة في الألوهية مما لا يعتد به وليس بينه وبين عدم القول به كثير نفع فتدبر ذاك والله تعالى يتولى هداك (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) شروع في نوع آخر من النعم متعلق بالبحر إثر تفصيل النوع المتعلق بالبر ، وجعله بعضهم عديلا لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ) فلذا جاء على أسلوبه جملة اسمية معرفة الجزأين ، وما وقع في البين إما مترتب على ذلك الماء المنزل وإما متضمن لمصلحة ما يترتب عليه ، والبحر على ما في البحر يشمل الملح والعذب ، والمعنى جعل لكم ذلك بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك ، والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للإشارة إلى قلة عظامه وضعفها في أغلب ما يصطاد للأكل بالنسبة إلى الأنعام الممتن بالأكل منها فيما سبق ، وقيل : للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل.
ومن متعلق ـ بتأكلوا ـ أو حال مما بعده وهي ابتدائية ، وجوز أن تكون تبعيضية والكلام على حذف مضاف أي من حيوانه ، وحينئذ يجوز أن (١) من اللحم الطري لحم السمك كما يجوز أن يراد منه السمك والطري فعيل من طرو يطرو طراوة مثل سرو يسرو سراوة ، وقال الفراء : من طرى يطري طراء وطراوة كشقي يشقى شقاء وشقاوة ، والطراوة ضد اليبوسة ، ووصفه بذلك للإشعار بلطافته والتنبيه إلى أنه ينبغي المسارعة إلى أكله فإنه لكونه رطبا مستعد للتغير فيسرع إليه الفساد والاستحالة ، وقد قال الأطباء : إن تناوله بعد ذهاب طراوته من أضر الأشياء ففيه إدماج لحكم طبي ، وهذا على ما قيل لا ينافي تقديده وأكله محللا كما توهم ، وفي جعل البحر مبتدأ أكله على أحد الاحتمالين إيذان بالمسارعة أيضا.
وزعم بعضهم أن في الوصف إيذانا أيضا بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء مر لا يشرب ، وفيه شيء لا يخفى ، ولا يؤكل عندنا من حيوان البحر إلا السمك ، ويؤيده تفسير اللحم به المروي عن قتادة وغيره وعن مالك وجماعة من أهل العلم اطلاق جميع ما في البحر ، واستثنى بعضهم الخنزير والكلب والإنسان ، وعن الشافعي أنه أطلق ذلك كله ، ويوافقه ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال : هو (٢) السمك وما في البحر من الدواب. نعم يكره عندنا أكل الطافي منه وهو الذي يموت حتف أنفه في الماء فيطفو على وجه الماء لحديث جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم ما نضب الماء عنه فكلوا وما لفظه الماء فكلوا وما طفا فلا تأكلوا وهو مذهب جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ، وميتة البحر في خبر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» ما لفظه ليكون موته مضافا إليه لا ما مات فيه من غير آفة ، وما قطع
__________________
(١) قوله : يجوز أن من اللحم إلخ كذا بخطه ولعله يجوز أن يراد من اللحم إلخ.
(٢) قوله. هو أي اللحم الطري اه منه.