للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به. وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه وتحتمه حسبما هو المعهود في إخباره تعالى كقوله سبحانه : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤].
(إِنَّ الْخِزْيَ) الذلّ والهوان. وفسره الراغب بالذلّ الذي يستحى منه (الْيَوْمَ) منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر باللام كقوله : ضعيف النكاية أعداءه. أو بالاستقرار في الظرف الواقع خبرا لإن ، وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظرف. وأل للحضور أي اليوم الحاضر ، وإيراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق (وَالسُّوءَ) العذاب ومن الخزي به جعل ذكر هذا للتأكيد (عَلَى الْكافِرِينَ) بالله تعالى وآياته ورسله عليهمالسلام (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) بتأنيث الفعل ، وقرأ حمزة والأعمش «يتوفاهم» بالتذكير هنا وفيما سيأتي إن شاء الله تعالى ، والوجهان شائعان في أمثال ذلك.
وقرئ بإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها ويجتلب في مثله حينئذ همزة وصل في الابتداء وتسقط في الدرج وإن لم يعهد همزة وصل في أول فعل مضارع. وفي مصحف عبد الله بتاء واحدة في الموضعين ، وفي الوصول أوجه الإعراب الثلاثة : الجر على أنه صفة (الْكافِرِينَ) أو بدل منه أو بيان له ، والنصب والرفع على القطع للذم ؛ وجوز ابن عطية كونه مرتفعا بالابتداء وجملة (فَأَلْقَوُا) خبره. وتعقبه أبو حيان بأن زيادة الفاء في البر لا تجوز هنا إلا على مذهب الأخفش في إجازته وزيادتها في الخبر مطلقا نحو زيد فقام أي قام ، ثم قال : ولا يتوهم أن هذه الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ إذا كان موصولا وضمن معنى الشرط لأنها لا يجوز دخولها في مثل هذا الفعل مع صريح أداة الشرط فلا يجوز مع ما ضمن معناه اه بلفظه. ونقل شهاب عنه أنه قال : إن المنع مع ما ضمن معناه أولى. وتعقبه بأن كونه أولى غير مسلم لأن امتناع الفاء معه لأنه لقوته لا يحتاج إلى رابط إذ صح مباشرته للفعل وما تضمن معناه ليس كذلك ، وكلامه الذي نقلناه لا يشعر بالأولوية فلعله وجد له كلاما آخر يشعر بها.
واستظهر هو الجر على الوصفية ثم قال : فيكون ذلك داخلا في المقول ، فإن كان القول يوم القيامة يكون (تَتَوَفَّاهُمُ) بصيغة المضارع حكاية للحال الماضية ، وإن كان في الدنيا أي لما أخبر سبحانه أنه يخزيهم يوم القيامة ويقول جل وعلا لهم ما يقول قال أهل العلم : إن الخزي اليوم الذي أخبر الله تعالى أنه يخزيهم فيه والسوء على الكافرين يكون (تَتَوَفَّاهُمُ) على بابه ، ويشمل من حيث المعنى من توفته ومن تتوفاه ، وعلى ما ذكره ابن عطية يحتمل أن يكون (الَّذِينَ) إلى آخره من كلام الذين أوتوا العلم وأن يكون إخبارا منه تعالى ، والظاهر أن القول يوم القيامة فصيغة المضارع لاستحضار صورة توفي الملائكة إياهم كما قيل آنفا لما فيها من الهول ، وفي تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره ، وفيه النديم لهم لا يخفى أي الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن تتوفاهم الملائكة (ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) أي حال كونهم مستمرين على الشرك الذي هو ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المقيم (فَأَلْقَوُا السَّلَمَ) أي الاستسلام كما قاله الأخفش وقال قتادة : الخضوع ، ولا بعد بين القولين. والمراد عليهما أنهم أظهروا الانقياد والخضوع ، وأصل الإلقاء في الأجسام فاستعمل في إظهارهم الانقياد وإشعارا بغاية خضوعهم وانقيادهم وجعل ذلك كالشيء الملقى بين يدي القاهر الغالب. والجملة قيل عطف على قوله تعالى : (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ) وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رءوس الأشهاد. وكان الظاهر فيلقون إلى آخره إلا أنه عبر بصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع أي يقول لهم سبحانه ذلك فيستسلمون وينقادون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة ، ولعله مراد من قال : إن الكلام قد تم عند قوله تعالى : (أَنْفُسِهِمْ) ثم عاد إلى حكاية حالهم يوم القيامة ،