وقد يستغنى عن ارتكاب ذلك لما ذكر بأن ما يدل عليه الظاهر من باب المشاكلة كما في قوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤] كما في الكشاف (وَحاقَ بِهِمْ) أي أحاط بهم ، وأصل معنى الحيق الإحاطة مطلقا ثم خص في الاستعمال بإحاطة الشر ، فلا يقال : أحاطت به النعمة بل النقمة. وهذا أبلغ وأفظع من أصابهم (ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي من العذاب كما قيل على أن (ما) موصولة عبارة عن العذاب ، وليس في الكلام حذف ولا ارتكاب مجاز على نحو ما مر آنفا ، وقيل : (ما) مصدرية وضمير (بِهِ) للرسول عليه الصلاة والسلام وإن لم يذكر ، والمراد أحاط بهم جزاء استهزائهم بالرسول صلىاللهعليهوسلم أو موصولة عامة للرسول عليه الصلاة والسلام وغيره وضمير (بِهِ) عائد عليها والمعنى على الجزاء أيضا ، ولا يخفى ما فيه ، وايا ما كان ف (بِهِ) متعلق ـ بيستهزءون ـ قدم للفاصلة ، هذا ثم إن قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) إلخ على ما في الكشف رجوع إلى عد ما هم فيه من العناد والاستشراء في الفساد وأنهم لا يقلعون عن ذلك كأسلافهم الغابرين إلى يوم التناد ، وما وقع من أحوال أضدادهم في البين كان لزيادة التحسير والتبكيت والتخسير ، وفيه دلالة على أن الحجة قد تمت وأنه صلىاللهعليهوسلم أدى ما عليه من البلاغ المبين ، وقوله تعالى : (فَأَصابَهُمْ) عطف على (فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) مترتب إذ المعنى كذلك التكذيب والشرك فعل أسلافهم وأصابهم ما أصابهم ، وفيه تحذير مما فعله هؤلاء وتذكير لقوله سبحانه : (قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [النحل : ٢٦] ولا يخفى حسن الترتب على ذلك لأن التكذيب والشرك تسببا لإصابة السيئات لمن قبلهم ، وقوله سبحانه : (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) اعتراض واقع حاق موقعه ، وجعل ذلك راجعا إلى المفهوم من قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) أي كذلك كان من قبلهم مكذبين لزمتهم الحجة منتظرين فأصابهم ما كانوا منتظرين سديد حسن إلا أن معتمد الكلام الأول وهو أقرب مأخذا ، ودلالة (فَعَلَ) عليه أظهر ، فهذه فذلكة ضمنت محصل ما قابلوا به تلك النعم والبصائر وأدمج فيها تسليته صلىاللهعليهوسلم والبشرى بقلب الدائرة على من تربص به وبأصحابه عليه الصلاة والسلام الدوائر وختمت بما يدل على أنهم انقطعوا فاحتجوا بآخر ما يحتج به المحجوج يتقلب عليه فلا يبصر إلا وهو مثلوج مشجوج وهو ما تضمنه قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) فهو من تتمة قوله سبحانه : (هَلْ يَنْظُرُونَ) ألا ترى كيف ختم بنحوه آخر مجادلاتهم في سورة [الأنعام : ١٤٨] في قوله سبحانه : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وكذلك في سورة الزخرف ولا تراهم يتشبثون بالمشيئة إلا عند انخزال الحجة و (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] ويكفي في الانقلاب ما يشير إليه قوله سبحانه : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] وفي إرشاد العقل السليم أن هذه الآية بيان لفن آخر من كفر أهل مكة فهم المراد بالموصول ، والعدول عن الضمير إليه لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر ، والمعنى لو شاء الله تعالى عدم عبادتنا لشيء غيره سبحانه كما تقول ما عبدنا ذلك (نَحْنُ وَلا آباؤُنا) الذين نهتدي بهم في ديننا (وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) من السوائب والبحائر وغيرها ـ فمن ـ الأولى بيانية والثانية زائدة لتأكيد الاستغراق وكذا الثالثة و (نَحْنُ) لتأكيد ضمير (عَبَدْنا) لا لتصحيح العطف لوجود الفاصل وإن كان محسنا له ، وتقدير مفعول (شاءَ) عدم العبادة مما صرح به بعضهم ، وكان الظاهر أن يضم إليه عدم التحريم. واعترض تقدير ذلك بأن العدم لا يحتاج إلى المشيئة كما ينبئ عنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن» حيث لم يقل عليه الصلاة والسلام ما شاء الله تعالى كان وما شاء عدم كونه لم يكن بل يكفي فيه عدم مشيئة الوجود ، وهو معنى قولهم : علة العدم عدم علة الوجود ، فالأولى أن يقدر المفعول وجوديا كالتوحيد والتحليل وكامتثال ما جئت به والأمر في ذلك سهل.
وفي تخصيص الإشراك والتحريم بالنفي لأنهما أعظم وأشهر ما هم عليه ، وغرضهم من ذلك كما قال بعض