قوله تعالى : (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أي له تعالى وحده ينقاد ويخضع جميع ما في السموات وما في الأرض (مِنْ دابَّةٍ) بيان لما فيهما بناء على أن الدبيب هو الحركة الجسمانية سواء كان في أرض أو سماء ، والملائكة أجسام لطيفة غير مجردة وتقييد الدبيب بكونه على وجه الأرض لظهوره أو لأنه أصل معناه وهو عام هنا بقرينة المبين ، وقوله سبحانه : (وَالْمَلائِكَةُ) عطف على محل الدابة المبين به وهو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأن (مِنْ) البيانية لا تكون ظرفا لغوا وهو من عطف الخاص على العام إفادة لعظم شأن الملائكة عليهمالسلام ، وجوز أن يكون من عطف المباين بناء على أن يراد بما في السموات الجسمانيات ويلتزم القول بتجرد الملائكة عليهمالسلام فلا يدخلون فيما في السموات لأن المجردات ليست في حيز وجهة وبعضهم استدل بالآية على تجرد الملائكة بناء على أن ما في السموات وما في الأرض بين أحدهما بالدابة والآخر بالملائكة والأصل في التقابل التغاير ، والدابة المتحركة حركة جسمانية فلا يكون مقابلها من الأجسام وأن الجسم لا بد فيه من حركة جسمانية ، ولا يخفى أنه دليل اقناعي إذ يحتمل كونه تخصيصا بعد تعميم كما سمعت آنفا أو هو بيان لما في الأرض ، والدابة اسم لما يدب على الأرض و (الْمَلائِكَةُ) عطف على ما في السموات وهو تكرير له وتعيين إجلالا وتعظيما ، وذكر غير واحد أنه من عطف الخاص على العام لذلك أيضا ، وجوز أن يراد مما في السموات الخلق الذين يقال لهم الروح ويلتزم القول بأنهم غير الملائكة عليهمالسلام فيكون من عطف المباين أو هما بيان لما في الأرض ، والمراد بالملائكة عليهمالسلام ملائكة يكونون فيها كالحفظة والكرام الكاتبين ولا يراد بالدابة ما يشملهم ، و «ما» إذا قلنا : إنها مختصة بغير العقلاء كما يشهد له خبر ابن الزبعري فاستعمالها هنا في العقلاء وغيرهم للتغليب ، وأما إن قلنا : إن وضعها لأن تستعمل في غير العقلاء وفيما يعم العقلاء وغيرهم كالشبح المرئي الذي لا يعرف أنه عاقل أولا فإنه يطلق عليه ما حقيقة فالأمر على ما قيل غير محتاج إلى تغليب ، وفي أنوار التنزيل إن (ما) لما استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق من تغليبا ، وفي الكشاف إنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء خاصة فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم وهو جواب عن سبب اختيار ما على من ، وحاصله على ما في الكشف إن من للعقلاء والتغليب مجاز فلو جيء بغير قرينة تعين الحقيقة والمقام يقتضي التعميم فجيء بما يعم وهو ما ، وأراد أن لا دليل في اللفظ ، وقرينة العموم في السابق لا تكفي لجواز تخصيصهم من البين بعد التعميم على أن اقتضاء المقام العموم وما في التغليب من الخصوص كاف في العدول انتهى. وقيل بناء على أن ما مختصة بغير العقلاء ومن مختصة بالعقلاء : إن الإتيان بما وارتكاب التغليب أوفق بتعظيم الله تعالى من الإتيان بمن وارتكاب ذلك فليفهم (وَهُمْ) أي الملائكة مع علو شأنهم (لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن عبادته تعالى شأنه والسجود له ، وتقديم الضمير ليس للقصر ، والسين ليست للطلب وقيل : له على معنى لا يطلبون ذلك فضلا عن فعله والاتصاف به. وإذا قلنا إن صيغة المضارع للاستمرار التجددي فالمراد استمرار النفي. والجملة إما حال من فاعل (يَسْجُدُ) مسندا إلى الملائكة أو استئناف للإخبار عنهم ، بذلك ، وإنما لم يجعل الضمير ـ لما ـ لاختصاصه بأولى العلم وليس المقام مقام التغليب ، وخالف في ذلك بعضهم فجعله لها وكذا الضمير في قوله سبحانه : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ) وممن صرح بعود الضمير فيه على (ما) أبو سليمان الدمشقي ، وقال أبو حيان : إنه الظاهر ، وذهب ابن السائب ومقاتل إلى ما قلنا أي يخافون مالك أمرهم (مِنْ فَوْقِهِمْ) إما متعلق ـ بيخافون ـ وخوف ربهم كناية عن خوف عذابه أو الكلام على تقدير مضاف هو العذاب على ما هو الظاهر أو متعلق بمحذوف وقع حالا من (رَبَّهُمْ) أي كائنا من فوقهم ، ومعنى كونه سبحانه فوقهم قهره وغلبته لأن الفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى ، ومذهب السلف قد أسلفناه لك وأظنه على ذكر منك.