وأنت تعلم أن تقدير العصير على الوجه الأول عند من يراه لازم ، وتقديره على الوجه الثاني جائز عند ذاك أيضا ولا يجوز عند المعترض. واختار أبو البقاء تعليقه بخلق لكم أو جعل وليس بذاك ، وقيل : إنه معطوف على الأنعام على معنى ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة (وَتَتَّخِذُونَ) بيان لها وهو غير الوجه الذي استظهره صاحب الكشف وكان الظاهر ـ في ـ بدل من وضمير (مِنْهُ) لا يتعين فيه ما سمعت كما لا يخفى عليك بعد أن أحطت خبرا بما قيل في ضمير (بُطُونِهِ) وتفسير «السكر» بالخمر هو المروي عن ابن مسعود. وابن عمر. وأبي رزين. والحسن. ومجاهد. والشعبي. والنخعي. وابن أبي ليلى. وأبي ثور. والكلبي. وابن جبير مع خلق آخرين ، والآية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر والفاجر وتحريمها إنما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في أنه قبل أحد أو بعدها والآية المحرمة لها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [المائدة : ٩٠] على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها ، وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وأبي ثور وابن جبير ، وقيل : نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روي عن ابن عباس أن «السكر» هو الخل بلغة الحبشة أو على ما نقل عن أبي عبيدة أن «السكر» المطعوم المتفكه به كالنقل وأنشده :
جعلت اعراض الكرام سكرا
وتعقب بأن كون السكر في ذلك بمعنى الخمر أشبه منه بالطعام ، والمعنى أنه لشغفه بالغيبة وتمزيق الأعراض جرى ذلك عنده مجرى الخمر المسكرة ، وكأنه لهذا قال الزجاج : إن قول أبي عبيدة لا يصح ، وفيه أن المعروف في الغيبة جعلها نقلا ولذا قيل : الغيبة فاكهة القراء ، وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا : المراد بالسكر ما لا يسكر من الأنبذة ، واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتنّ على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان إلا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز وعضدوا هذا من السنة بما روي عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «حرم الله تعالى الخمر بعينها القليل منها والكثير والسكر (١) من كل شراب» أخرجه الدارقطني ، وإلى حل شرب النبيذ ما لم يصل إلى الإسكار ذهب إبراهيم النخعي : وأبو جعفر الطحاوي وكان إمام أهل زمانه. وسفيان الثوري وهو من تعلم وكان عليه الرحمة يشربه كما ذكر ذلك القرطبي في تفسيره. والبيضاوي بعد أن فسر «السكر» بالخمر تردد في أمر نزولها فقال : إلا أن الآية إن كانت سابقة على تحريم الخمر فدالة على كراهيتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة ، ووجه دلالتها على الكراهية بأن الخمر وقعت في مقابلة الحسن وهو مقتضى لقبحها والقبيح لا يخلو عن الكراهة وإن خلا عن الحرمة ، واعترض عليه بأن تردده هنا في سبقها على تحريم الخمر ينافي ما في سورة البقرة حيث ساق الكلام على القطع أنه جزم في أول هذه السورة بأنها مكية إلا ثلاث آيات من آخرها.
وفي الكشاف بعد أن فسر «السكر» أيضا بما ذكر قال : وفيه وجهان : أحدهما أن تكون منسوخة ، والثاني أن يجمع بين العتاب والمنة ، ونقل صاحب الكشف أن القول بكونها منسوخة الأقاويل ، ثم قال : وفي الآية دليل على قبح تناولها تعريضا من تقييد المقابل بالحسن ، وهذا وجه من ذهب إلى أنه جمع بين العتاب والمنة ، وعلى الأول يكون رمزا إلى أن السكر وإن كان مباحا فهو مما يحسن اجتنابه اه. واستدل ابن كمال على نزولها قبل التحريم أن المقام لا يحتمل العتاب فإن مساق الكلام على ما دل عليه سياقه ولحاقه في تعداد النعم العظام ، وذكر أن كلام الزمخشري ومن تبعه ناشئ عن الغفلة عن هذا ، ولعل عدم وصف «السكر» بما وصف به ما بعده لعلم الله تعالى أنه سيكون رجسا يحكم
__________________
(١) بضم السين اه منه.