أن في قوله تعالى : (ثُمَّ كُلِي) إشارة إلى أن لمعدة النحل في ذلك تأثيرا وهو المختار عند المحققين من الحكماء ، ومن جعل العسل نباتيا محضا وفسر البطون بأفواه النحل فليت شعري ما ذا يصنع بقوله سبحانه : (ثُمَّ كُلِي) وأجيب بأنّه يفسر الأكل بالالتقاط وهو كما ترى أن دفع الفساد لا يدفع الاستبعاد ، ومن الناس من زعم أنها تجتني زهرا وطلا فالمجتنى من الزهر نفسه يكون عسلا والمجتنى من الطل يكون موما (١) والعقل يجوز العكس ولعله أقرب من ذلك (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) بالبياض والصفرة والحمرة والسواد إما لمحض إرادة الصانع الحكيم جل جلاله وإما لاختلاف المرعى أو لاختلاف الفصل أو لاختلاف سن النحل ، فالأبيض لفتاها والأصفر لكهلها والأحمر لمسنها والأسود للطاعن في ذلك جدا.
وتعقب بأنه مما لا دليل عليه ، وقد سألت جمعا ممن أثق بهم قد اختبروا أحوالها فذكروا أنهم قد استقرءوا وسبروا فرأوا أقوى الأسباب الظاهرة لاختلاف الألوان اختلاف السن بل قال بعضهم : ما علمنا لذلك سببا إلا هذا بالاستقراء ، وحينئذ يكون ما ذكر مؤيدا للقول المشهور في تكون العسل كما لا يخفى على من له أدنى ذوق.
(فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل فله دخل في أكثر ما به الشفاء من المعاجين والتراكيب ، وقيل عليه : إن دخوله في ذلك لا يقتضي أن يكون له دخل في الشفاء بل عدم الضرر إذ قيل : إن إدخاله في التراكيب لحفظها ولذا ناب عنه في ذلك السكر ، والذي رأيناه في كثير من كتب الطب أنه يحفظ قوى الأدوية طويلا ويبلغها منافعها ، ولا يخفى على المنصف أن ما يحفظ القوى ويبلغ منافع الدواء يصدق عليه أن له دخلا في الشفاء ، ولم يشتهر أن السكر ينوب منابه في ذلك.
وفي البحر أن العسل موجود كثيرا في أكثر البلاد وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث مصنوع للبشر ، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأدوية والأشربة إلا العسل اه ، وفي شرح الشمائل أنه عليه الصلاة والسلام لم يأكل السكر ، وذكر غير واحد أنه ليس المراد بالناس هنا العموم لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل كأمراض الصفراء فإنه مضر للصفراوي ، ولو يسلم أن السكنجبين الذي الذي هو خل وعسل كما ينبئ عنه أصل معناه نافع له ، والنافع نوع آخر من السكنجبين فإنه ثقل إلى ما ركب من حامض وحلو ، وله أنواع كثيرة ألفت في جمعها الرسائل حتى قالوا بحرمة تناوله عليه وإنما المراد بالناس الذين ينجع العسل في أمراضهم ، والتنوين في (شِفاءٌ) إما للتعظيم أي شفاء أي شفاء ، وإما للتبعيض أي فيه بعض الشفاء فلا يقتضي أن كل شفاء به ولا أن كل أحد يستشفي به.
ولا يرد أن اللبن أيضا كذلك بل قلما يوجد شيء من العقاقير إلا وفيه شفاء للناس بهذا المعنى لما قيل : إن التنصيص على هذا الحكم فيه لإفادة ما يكاد يستبعد من اشتمال ما يخرج على اختلاف ألوانه من هذه الدود التي هي أشبه شيء بذوات السموم ولعلها ذات سم أيضا فإنها تلسع وتؤلم وقد يرم الجلد من لسعها وهو ظاهر في أنها ذات سم على (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) ويفهم من ظاهر بعض الآثار أن الكلام على عمومه. فقد أخرج حميد ابن زنجويه عن نافع ان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان لا يشكو قرحة ولا شيئا إلا جعل عليه عسلا حتى الدمل إذا كان به طلاه عسلا فقلنا له : تداوي الدمل بالعسل فقال : أليس الله تعالى يقول (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)؟.
وأنت تعلم أنه لا بأس بمداواة الدمل بالعسل فقد ذكر الأطباء أنه ينقي الجروح ويدمل ويأكل اللحم الزائد
__________________
(١) قوله يكون موما هذه لفظة تركية ومعناها بالعربية الشمع اه.