والحق أنه لا مساغ للعموم إذ لا شك في وجود مرض لا ينفع فيه العسل ، والآثار المشعرة بالعموم الله تعالى أعلم بصحتها. وأما ما أخرجه أحمد. والبخاري. ومسلم. وابن مردويه «عن أبي سعيد الخدري أن رجلا أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا رسول الله إن أخي استطلق بطنه فقال : اسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال : سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا قال : اذهب فاسقه عسلا فسقاه عسلا ثم جاء فقال : ما زاده إلا استطلاقا فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : صدق الله تعالى وكذب بطن أخيك اذهب فاسقه عسلا فذهب فسقاه فبرأ» فليس صريحا في العموم لجواز أن يكون عليه الصلاة والسلام قد علمه الله سبحانه أن داء هذا المستطلق مما يشفى بالعسل فإن بعض الاستطلاق قد يشفى بالعسل ، ففي طبقات الأطباء أنه إنما قال صلىاللهعليهوسلم ذلك لأنه علم أن في معدة المريض رطوبات لزجة غليظة قد أزلقت معدته فكلما مر به شيء من الأدوية القابضة لم يؤثر فيه والرطوبات باقية على حالها والأطعمة تزلق عنها فيبقى الإسهال فلما تناول العسل جلا تلك الرطوبات وأحدرها فكثر الإسهال أولا بخروجها وتوالي ذلك حتى نفذت الرطوبة بأسرها فانقطع إسهاله وبرئ ، فقوله صلىاللهعليهوسلم : «صدق الله تعالى» يعني بالعلم الذي عرف نبيه عليه الصلاة والسلام به ، وقوله «كذب بطن أخيك» يعني ما كان يظهر من بطنه من الإسهال وكثرته بطريق العرض وليس هو بإسهال ومرض حقيقي فكان بطنه كاذبا اه. وقال بعضهم : المراد ـ بصدق الله تعالى ـ صدق سبحانه في أن العسل فيه الشفاء ، وقوله عليه الصلاة والسلام : «كذب بطن أخيك» من المشاكلة الضدية كقولهم : من طالت لحيته تكوسج عقله ، وهو على الأول استعارة مبنية على تشبيه البطن بالكاذب في كون ما ظهر من إسهالها ليس بأمر حقيقي وإنما هو لما عرض لها ، وعلى ذلك قول الأطباء : زحير كاذب وزحير صادق. وأنكر بعضهم هذا النوع من المشاكلة وقال : إنها ليست معروفة وإنه إنما عبر به لأن بطنه كأنه كذب قوله الله تعالى بلسان حاله وهو ناشئ من قلة الاطلاع. وقد وقع نظير هذه القصة في زمن المأمون ، وذلك أن ثمامة العبسي وكان من خواصه مرض بالإسهال فكان يقوم في اليوم والليلة مائة مرة وعجز الأطباء عن علاجه فعالجه يزيد بن يوحنا طبيب المأمون بالمسهل أيضا فبرئ وكان قد ظن الأطباء أنه يموت بسبب ذلك ولا يبقى لغده ، وذكر الطبيب حين سأله المأمون عن وجه الحكمة فيما فعل فذكر أنه كان في جوف الرجل كيموس فاسد فلا يدخله غذاء ولا دواء إلا أفسده فعلمت أنه لا علاج له إلا قلع ذلك بالإسهال ، ومنه يعلم أن ما فعله النبي صلىاللهعليهوسلم كان من معجزاته الدالة على علمه بدقائق الطب من غير تعليم ، وكذا يعلم أن ما طعن به بعض الملحدين ومن في قلبه مرض من أنه كيف يداوي الإسهال بالعسل وهو مسهل باتفاق الأطباء ناشئ عن الجهل بالدقائق وعدم الوقوف على الحقائق. ونقل عن مجاهد. والضحاك. والفراء ، وابن كيسان وهو رواية عن ابن عباس. والحسن أن ضمير (فِيهِ) للقرآن والمراد أن في القرآن شفاء لأمراض الجهل والشرك وهدى ورحمة ، واستحسن ذلك ابن النحاس.
وقال القاضي أبو بكر العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ، ورجوع الضمير للكتاب في قوله سبحانه : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) مما لا يكاد يقوله أمثال هؤلاء الكرام والعلماء الأعلام. نعم كون القرآن شفاء مما لا كلام فيه ، وقد أخرج الطبراني. وغيره عن ابن مسعود «عليكم بالشفاءين العسل والقرآن» هذا.
وقدم سبحانه الأخبار عن إنزال الماء لما أن الماء أتم نفعا وأعظم شأنا وهو أصل أصيل لتكون اللبن وما بعده ، ثم ذكر اللبن لأنه يحتاج إليه أكثر من غيره مما ذكر بعده ، وقد يستغنى بشربه عن شرب الماء كما شاهدنا ذلك من بعض متزهدي زماننا فقد ترك شرب الماء عدة من السنين مكتفيا بشرب اللبن ، وسمعنا نحو ذلك عن بعض رؤساء الأعراب ، وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره صلىاللهعليهوسلم حين أسري به وعرض عليه مع الخمر والعسل ، ثم الخمر لأنها أقرب إلى