الماء من العسل فإنها ماء العنب ولم يعهد جعلها إداما كالعسل فإنه كثيرا ما يؤدم به الخبز ويؤكل ، وبينها وبين اللبن نوع مشابهة من حيث إن كلا منهما يخرج من بين أجزاء كثيفة وما أشبه ثقله بالفرث ، وإذا لوحظ السوغ في اللبن وعدمه في الخمر بناء على ما يقولون : إنها ليست سهلة المرور في الحلق ولذا يقطب شاربها عند الشرب وقد يغص بها كان بينهما نوع من التضاد ، ويحسن إيقاع الضد بعد الضد كما يحسن إيقاع المثل بعد المثل ، وإذا لوحظ مآل أمرهما شرعا رأيت أن الخمر لم يسغ شربها بعد نزول الآية فيه وشرب اللبن لم يزل سائغا وبذلك يقوى التضاد ، ويقويه أيضا أن اللبن يخرج من بطن حيوان ولا دخل لعمل البشر فيه والخمر ليست كذلك ، وأما ذكر الرزق الحسن بعد الخمر وتقديمه على العسل فالوجه فيه ظاهر جدا ، ولعل ما اعتبرناه في وجه تقديم الخمر على العسل وذكره بعد اللبن أقوى مما يصح اعتباره في العسل وجها لتقديمه على الخمر وذكره بعد اللبن ، فلا يرد أن في كل جهة تقديما فاعتبارها في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا مرجح ، وقد جاء ذكر الماء واللبن والخمر والعسل في وصف الجنة على هذا الترتيب قال تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من آثار قدرة الله تعالى (لَآيَةً) عظيمة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة التي مرت الإشارة إليها وخروج هذا الشراب الحلو المختلف الألوان وتضمنه الشفاء جزم قطعا أن لها ربا حكيما قادرا ألهمها ما ألهم وأودع فيها ما أودع ، ولما كان شأنها في ذلك عجيبا يحتاج إلى مزيد تأمل ختم سبحانه الآية بالتفكر. ومن بدع تأويلات الرافضة على ما في الكشاف أن المراد بالنحل علي كرم الله تعالى وجهه وقومه. وعن بعضهم أنه قال عند المهدي : إنما النحل بنو هاشم يخرج من بطونهم العلم فقال له رجل : جعل الله تعالى طعامك وشرابك مما يخرج من بطونهم فضحك المهدي وحدث به المنصور فاتخذوه أضحوكة من أضاحيكهما ، وستسمع إن شاء الله تعالى ما يقوله الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم في باب الإشارة ، ثم إنه سبحانه لما ذكر من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته بين ذلك فقال عز قائلا : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) حسبما تقتضيه مشيئته تعالى المبنية على الحكم البالغة بآجال مختلفة ، والقرينة على إرادة ذلك قوله سبحانه : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ولذا قيل : إنه معطوف على مقدر أي فمنكم من تعجل وفاته ومنكم إلخ ، و (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أخسه وأحقره وهو وقت الهرم الذي تنقص فيه القوى وتفسد الحواس ويكون حال الشخص فيه كحالة وقت الطفولية من ضعف العقل والقوة. ومن هنا تصور الرد فهذا كقوله تعالى : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) [يس : ٦٨] ففيه مجاز ، وأخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه أن «أرذل العمر» خمس وسبعون سنة ؛ وعن قتادة أنه تسعون ، وقيل : خمس وتسعون واختار جمع تفسيره بما سبق وهو يختلف باختلاف الأمزجة فرب معمر لم تنتقص قواه ومنتقص القوى لم يعمر ، ولعل التقييد بسن مخصوص مبني على الأغلب عند من قيد.
والخطاب إن كان للموجودين وقت النزول فالتعبير بالماضي والمستقبل فيه ظاهر ، وإن كان عاما فالمضي بالنسبة إلى وقت وجودهم والاستقبال بالنسبة إلى الخلق ، وعلى التقدير الظاهر أن (مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) يعم المؤمن مطلقا والكافر ، وقيل : إنه مخصوص بالكافر والمسلم لا يرد إلى أرذل العمر لقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [التين : ٥ ، ٦] وأخرج ابن المنذر. وغيره عن عكرمة أنه قال : من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر ، والمشاهدة تكذب كلا القولين فكم رأينا مسلما قارئ القرآن قد رد إلى ذلك ، والاستدلال