الأولى على الثانية. واعترض عليه بأنه لا يخفى أنه لا مقتضى للزوم الغيبة ولا لبس لو ترك الضمير.
وقد يقال : إنما لم يؤت في آية العنكبوت بالضمير ويبنى الفعل عليه إفادة للتقوى استغناء بتكرر ما يفيد كفر القوم بالنعم مع قربه من تلك الآية عن ذلك ، على أنه قد تقدم هناك ما تستمد منه الجملتان أتم استمداد وإن كان فيه نوع بعد ومغايرة ما وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [العنكبوت : ٥٢] ولما لم تكن آية النحل فيما ذكر بهذه المرتبة جيء فيها بما يفيد التقوى ، أو يقال : إنه لما كان سرد النعم هنا على وجه ظاهر في وصولها إليهم والامتنان بها عليهم كان ذلك أوفق بأن يؤتى بما يفيد كفرهم بها على وجه يشعر باستبعاد وقوعه منهم فجيء بالضمير فيه ولما لم يكن ما هنالك كذلك لم يؤت فيه بما ذكر ، ولعل التعبير هنا ـ بيكفرن ـ وفيما قبل (يَجْحَدُونَ) لأن ما قبل كان مسبوقا على ما قيل بضرب مثل لكمال قباحة ما فعلوه والجحود أوفق بذلك لما أن كمال القبح فيه أتم ولا كذلك فيما البحث فيه كذا قيل فافهم والله تعالى بأسرار كتابه أعلم (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو حيان : هو استئناف إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفيه تبيين لقوله تعالى : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) وقال بعض أجلة المحققين : لعله عطف على (يَكْفُرُونَ) داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه سبحانه (ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً) أي ما لا يقدر أن يرزقهم شيئا لا من السموات مطرا ولا من الأرض نباتا ـ فرزقا ـ مصدر ، و (شَيْئاً) نصب على المفعولية له وإلى ذلك ذهب أبو علي. وغيره. وتعقبه ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن والمصدر إنما هو الرزق بفتح الراء كالرعي والطحن. ورد عليه بأن مكسور الراء مصدر أيضا كالعلم وسمع ذلك فيه فصح أن يعمل في المفعول ، وقيل : هو اسم مصدر والكوفي يجوز عمله في المفعول ـ فشيئا ـ مفعوله على رأيهم ، وجوز أن يكون بمعنى مرزوق و (شَيْئاً) بدل منه أي لا يملك لهم شيئا. وأورد عليه السمين. وأبو حيان أنه غير مفيد إذ من المعلوم أن الرزق من الأشياء والبدل يأتي لأحد شيئين البيان والتأكيد وليسا بموجودين هنا. وأجيب بأن تنوين (شَيْئاً) للتقليل والتحقير فإن كان تنوين (رِزْقاً) كذلك هو مؤكد وإلا فمبين وحينئذ فيصح فيه أن يكون بدل بعض أو كل ولا إشكال.
وجوز أن يكون (شَيْئاً) مفعولا مطلقا ليملك أي لا يملك شيئا من الملك و (مِنَ السَّماواتِ) إما متعلق بقوله تعالى : (لا يَمْلِكُ) أو بمحذوف وقع صفة ـ لرزقا ـ أي رزقا كائنا منهما ، واطلاق الرزق على المطر لأنه ينشأ عنه.
(وَلا يَسْتَطِيعُونَ) جوز أن يكون عطفا على صلة (ما) وأن يكون مستأنفا للإخبار عن حال الآلهة ، واستطاع متعد ومفعوله محذوف هو ضمير الملك أي لا يستطيعون أن يملكوا ذلك ولا يمكنهم ، فالكلام تتميم لسابقه وفيه من الترقي ما فيه فلا يكون نفي استطاعة الملك بعد نفي ملك الرزق غير محتاج إليه ، وإن جعل المفعول ضمير الرزق كما جوزه في الكشاف يكون هذا النفي تأكيدا لما قبله. وأورد عليه أنه قد قرر في المعاني أن حرف العطف لا يدخل مبين المؤكد والمؤكد لما بينها من كمال الاتصال. ودفع بأن ذلك غير مسلم عند النحاة وليس مطلقا عند أهل المعاني ألا ترى قوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) [النبأ : ٤ ، ٥] نعم يرد عليه حديث أن التأسيس خير من التأكيد ، وجوز ولعله الأولى أن يكون الفعل منزلا منزلة اللازم فيكون المراد نفي الاستطاعة عنهم مطلقا على حد يعطي ويمنع فالمعنى أنهم أموات لا قدرة لهم أصلا فيكون تذييلا للكلام السابق ، وفيه ما فيه على الوجه الأول وزيادة.
وجمع الضمير فيه وتوحيده في (لا يَمْلِكُ) لرعاية جانب اللفظ أولا والمعنى ثانيا فإن «ما» مفرد بمعنى الآلهة ومثل هذه الرعاية وارد في الفصيح وإن أنكره بعضهم لما يلزمه من الإجمال بعد البيان المخالف للبلاغة فإنه مردود كما بين في محله ، وقد روعي أيضا في التعبير حال معبوداتهم في نفس الأمر فإنها أحجار وجمادات فعبر عنها ـ بما ـ