والمجرور متعلق بقوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ) وقدم للحصر فيفيد أن ليس لهم إيمان إلا بذلك كأنه شيء معلوم مستيقن (وَبِنِعْمَةِ اللهِ) المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي عقل وتمييز مما ذكر ومما لا تحيط به دائرة البيان (هُمْ يَكْفُرُونَ) أي يستمرون على الكفر بها والإنكار لها كما ينكر المحال الذي لا يتصوره العقول وذلك بإضافتها إلى أصنامهم ، وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ونعمة الله تعالى ما أحل لهم. والآية على هذا ظاهرة لتعلق بقوله سبحانه : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) فقط دون ما قبله أيضا والظاهر تعلقها بهما ، ومن ذلك يظهر حال من أخرجه ابن المنذر عن ابن جريج من أن الباطل الشيطان ونعمة الله تعالى محمد صلىاللهعليهوسلم ، وما ذكرناه قد صرح بأكثره الزمخشري ، واستفادة الحصر من التقديم ظاهرة ، وأما كأنه شيء معلوم مستيقن فمستفاد من حصرهم الإيمان فيما ذكر لأن ذلك شأن المؤمن به لا سيما وقد حصروا ، وأيضا المقابلة بالمشاهد المحسوس أعني نعمة الله تعالى دلت على تعكيسهم فيدل على أنهم جعلوا الموهوم بمنزلة المتيقن وبالعكس ، والفاء التي للتعكيس شديدة الدلالة على هذا الأمر والحمل على أنها للعطف على محذوف ليس بالوجه كذا في الكشف ، وفيه رد على ما قيل إن في كلا التركيبين تأكيدا وتخصيصا ، أما التخصيص فيهما فمن تقديم المعمول ، وأما التأكيد في الأول فلأن الفاء تستدعي معطوفا عليه تقديره أيكفرون بالحق ويؤمنون بالباطل والكفر بالحق مستلزم للإيمان بالباطل فقد تكرر الإيمان بالباطل والتكرير يفيد التأكيد ، وأما التأكيد في الثاني فمن بناء (يَكْفُرُونَ) على هم المفيد لتقوى الحكم ، وجعل كلام الزمخشري مشيرا إلى ذلك كله فتدبر. وما ذكر من أن تقديم الجار في التركيبين للتخصيص مما صرح به غير واحد ، والعلامة البيضاوي جوز ذلك لكنه أقحم الإيهام هنا نظير ما فعلناه فيما سلف آنفا.
ووجه ذلك بأن المقام ليس بمقام تخصيص حقيقة إذ لا اختصاص لإيمانهم بالباطل ولا لكفرانهم بنعم الله سبحانه ولم يقحمه في تفسير نظير ذلك في العنكبوت فإن وجه بأنهم إذا آمنوا بالبال كان إيمانهم بغيره بمنزلة العدم وإن النعم كلها من الله تعالى إما بالذات أو بالواسطة فليس كفرانهم إلا لنعمه سبحانه كما قيل لا يشكر الله من لا يشكر الناس بقي المخالفة. وأجيب بأنه إذا نظر للواقع فلا حصر فيه وإن لوحظ ما ذكر يكون الحصر ادعائيا وهو معنى الإيهام للمبالغة فلا تخالف ، وجوز أن يكون التقديم للاهتمام لأن المقصود بالإنكار الذي سيق له الكلام تعلق كفرانهم بنعمة الله تعالى واعتقادهم للباطل لا مطلق الإيمان والكفران ، وأن يكون لرعاية الفواصل وهو دون النكتتين ، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه. وفي البحر أن السلمي قرأ «تؤمنون» بالتاء على الخطاب وأنه روى ذلك عن عاصم ، والجملة فيما بعده على هذا كما استظهره في البحر مجردا عن الكفرة غير مندرج في التقريع. هذا بقي أنه وقع في [العنكبوت : ٦٧](أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) بدون ضمير ووقع هنا ما سمعت بالضمير ، وبين الخفاجي سر ذلك بأنه لما سبق في هذه السورة قوله تعالى : (فَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي يكفرون كما مر فلو ذكر ما نحن فيه بدون الضمير لكانت الآية تكرارا بحسب الظاهر فأتى بالضمير الدال على المبالغة والتأكيد ليكون ترقيا في الذم بعيدا عن اللغوية ، ثم قال : وقيل إنه أجري على عادة العباد إذا أخبروا عن أحد بمنكر يجدون موجدة فيخبروا عن حاله الأخرى بكلام آكد من الأول ، ولا يخفى أن هذا إنما ينفع إذا سئل لم قيل : (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) بدون ضمير وقيل : (وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) به ، وأما في الفرق بين ما هنا وما هناك فلا ، وقيل : آيات العنكبوت استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب وأما الآية التي نحن فيها فقد سبق قبلها مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب ، وتخصيص هذه بالزيادة دون (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ) مع أنها الأولى بها بحسب الظاهر لتقدمها لئلا يلزم زيادة الفاصلة