ذلك امتنانا بإعطاء الجامع لهذه الوصفين الجليلين فكأنه قيل : وجعل لكم منهن أولادا هم بنون وهم حافدون أي جامعون بين هذين الأمرين ، ويقرب منه ما روي عن ابن عباس من أن البنين صغار الأولاد والحفدة كبارهم ، وكذا ما نقل عن مقاتل من العكس ، وكأن ابن عباس نظر إلى أن الكبار أقوى على الخدمة (١) ومقاتل نظر إلى أن الصغار أقرب للانقياد لها وامتثال الأمر بها واعتبر الحفد بمعنى مقاربة الخط ، وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأول ، وأخرجه ابن جرير. وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وأخرج الطبراني والبيهقي في سننه والبخاري في تاريخه والحاكم وصححه عن ابن مسعود أنهم الأختان وأريد بهم ـ على ما قيل ـ أزواج البنات ويقال لهم أصهار ، وأنشدوا :
فلو أن نفسي طاوعتني لأصبحت |
|
لها حفد مما يعد كثير |
ولكنها نفس عليّ أبية |
|
عيوني لأصهار اللئام تدور |
والنصب على هذا بفعل مقدر أي وجعل لكم حفدة لا بالعطف على (بَنِينَ) لأن القيد إذا تقدم يعلق بالمتعاطفين وأزواج البنات ليسوا من الأزواج ، وضعف بأنه لا قرينة على تقدير خلاف الظاهر وفيه دغدغة لا تخفى. وقيل : لا مانع من العطف بأن يراد بالأختان أقارب المرأة كأبيها وأخيها لا أزواج البنات فإن إطلاق الأختان عليه إنما هو عند العامة وأما عند العرب فلا كما في الصحاح ، وتجعل (مِنْ) سببية ولا شك أن الأزواج سبب لجعل الحفدة بهذا المعنى وهو كما ترى. وتعقب تفسيره بالأختان والربائب بأن السياق للامتنان ولا يمتن بذلك.
وأجيب أن الامتنان باعتبار الخدمة ولا يخفى أنه مصحح لا مرجح. وقيل : الحفدة هم الخدم والأعوان وهو المعنى المشهور له لغة. والنصب أيضا بمقدر أي وجعل لكم خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم في أموركم.
وقال ابن عطية بعد نقل عدة أقوال في المراد من ذلك : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجته بنون وحفدة ولا يخفى أن باعتبار الغالب ، ويحتمل أن يحمل قوله تعالى : (مِنْ أَزْواجِكُمْ) على العموم والاشتراك أي جعل من أزواج البشر البنين والحفدة ويستقيم على هذا الحفدة على مجراها في اللغة إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحدهم عن حفدة اه ، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير لكن لا يخفى أن فيه بعدا ، وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مكر غير مرة من التشويق ، وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن لإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمدادا للتشويق وتقوية له.
(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي اللذائذ وهو معناها اللغوي ، وجوز مجوز أن يراد بالطيب ما هو متعارف في لسان الشرع وهو الحلال. وتعقبه أبو حيان بأن المخاطبين بهذا الكفار وهم لا شرع لهم فتفسيره بذلك غير ظاهر ، وأجيب بأنهم مكلفون بالفروع كالأصول فيوجد في حقهم الحلال والحرام ، وأيضا هم مرزوقون بكثير من الحلال الذي أكلوا بعضه ولا يلزم اعتقادهم للحل ونحوه ، ومن للتبعيض لأن ما رزقوه بعض من كل الطيبات فإن ما في الدنيا منها بأسره أنموذج لما في الآخرة إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وما في الدنيا لم يصل كثير منه إليهم ، والظاهر على ما ذكرنا عموم الطيبات للنبات والثمار والحبوب والأشربة والحيوان ، وقيل : المراد بها ما أتي من غير نصب ، وقيل : الغنائم ، وليس بشيء.
(أَفَبِالْباطِلِ) وهو منفعة الأصنام وبركتها وما ذاك إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، والجار
__________________
(١) هنا بياض بالأصل.