نعمته تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا ما أفيض عليهم من الله تعالى من النعم إلى شركائهم ويجحدوا كونهم من عنده جل وعلا ، وجوز كون المراد بنعمة الله تعالى ما أنعم سبحانه به من إقامة الحجج وإيضاح السبل وإرسال الرسل عليهمالسلام ولا نعمة أجل من ذلك ، فمعنى جحودهم ذلك إنكاره وعدم الالتفات إليه ، وصيغة الغيبة لرعاية (فَمَا الَّذِينَ) وقرأ أبو بكر عن عاصم. وأبو عبد الرحمن والأعرج بخلاف عنه «تجحدون» بالتاء على الخطاب رعاية لبعضكم ، هذا وجوز أن يكون معنى الآية أن الله تعالى فضل بعضا على بعض في الرزق وأن المفضلين لا يردون من رزقهم على من دونهم شيئا وإنما أنا رازقهم فالمالك والمملوك في أصل الرزق سواء وإن تفاوتا كما وكيفا ، والمراد النهي عن الإعجاب والمن اللذين هما مقدمتا الكفران.
والعطف على مقدر أيضا أي أيعجبون ويمنون فيجحدون نعمة الله تعالى عليهم ، وقيل : التقدير ألا يفهمون فيجحدون ؛ واختار في الكشاف أن المعنى أنه سبحانه جعلكم متفاوتين في الرزق فرزقكم أفضل مما رزق مماليككم وهم بشر مثلكم وإخوانكم وكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم حتى تساووا في الملبس والمطعم كما يحكى عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه أنه سمع رسول الله يقول : «إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت ، وحاصله إن الله تعالى فضلكم على أمثالكم فكان عليكم أن تردوا من ذلك الفضل عليهم شكرا لنعمته تعالى لتكونوا سواء في ذلك الفضل ويبقى لكم فضل الإفضال والتفضل. فالآية حث على حسن الملكة وأدمج أنهم وعبيدهم مربوبون بنعمته تعالى ذلك مع تقلبهم فيها ليكون تمهيدا لكفرانهم نعمه سبحانه السوابغ إلى أن جعلوا له عزوجل أندادا لا تملك لنفسها ضرا ولا نفعا فعبدوها عبادته تعالى أو أشد وأسد ، وفي ذلك من البعد ما فيه ، والعطف فيه على مقدر أيضا كألا يعرفون ذلك فيجحدون.
(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من جنسكم ونوعكم وهو مجاز في ذلك ، والأشهر من معاني النفس الذات ولا يستقيم هنا كغيره فلذا ارتكب المجاز وهو إما في المفرد أو الجمع ، واستدل بذلك بعضهم على أنه لا يجوز للإنسان أن ينكح من الجن (أَزْواجاً) لتأنسوا بها وتقيموا بذلك مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم.
وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذا خلق آدم وحواء عليهماالسلام فإن حواء خلقت من نفسه عليهالسلام ، وتعقب بأنه لا يلائمه جمع الأنفس والأزواج ، وحمله على التغليب تكلف غير مناسب للمقام وكذا كون المراد منهما بعض الأنفس وبعض الأزواج (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي منها فوضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن المراد جعل لكم منكم من زوجه لا من زوج غيره (بَنِينَ) وبأن نتيجة الزواج هو التوالد (وَحَفَدَةً) جمع حافد ككاتب وكتبة ، وهو من قولهم : حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا إذا أسرع في الخدمة والطاعة ، وفي الحديث «إليك نسعى ونحفد» وقال جميل :
حفد الولائد حولهن وأسلمت |
|
بأكفهن أزمة الأجمال |
وقد ورد الفعل لازما ومتعديا كقوله :
يحفدون الضيف في أبياتهم |
|
كرما ذلك منهم غير ذل |
وجاء في لغة ـ كما قال أبو عبيدة ـ أحفد أحفادا ، وقيل : الحفد سرعة القطع ، وقيل : مقاربة الخطو ، والمراد بالحفدة على ما روي عن الحسن. والأزهري وجاء في رواية عن ابن عباس واختاره ابن العربي أولاد الأولاد ، وكونهم من الأزواج حينئذ بالواسطة ، وقيل : البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فانهن في الغالب يخدمن في البيوت أتم خدمة ، وقيل : البنون والعطف لاختلاف الوصفين البنوة والخدمة ، وهو منزل منزلة تغاير الذات ، وقد مر نظيره فيكون