فتدبر ، وقيل على في (عَلَيْكُمْ) بمعنى اللام كما في قوله تعالى : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] فالمعنى شهيدا لكم ، والمراد بشهادته لهم تزكيته إياهم إذا شهدوا على الأمم ولا يخفى بعده ، واللام متعلقة بسماكم على الوجهين في الضمير وهي للعاقبة على ما قيل ، وقال الخفاجي : لا مانع من كونها للتعليل فإن تسمية الله تعالى أو إبراهيم عليهالسلام لهم بالمسلمين حكم بإسلامهم وعدالتهم وهو سبب لقبول شهادة الرسول عليه الصلاة والسلام الداخل فيهم دخولا أوليا وقبول شهادتهم على الأمم وفيه نوع خفاء.
(فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أي فتقربوا إليه تعالى لما خصكم بهذا الفضل والشرف بأنواع الطاعات ، وتخصيص هذين الأمرين بالذكر لانافتهما وفضلهما (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي ثقوا به تعالى في جميع أموركم (هُوَ مَوْلاكُمْ) ناصركم ومتولي أموركم (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو إذ لا مثيل له تعالى في الولاية والنصرة فإن من تولاه لم يضع ومن نصره لم يخذل بل لا ولي ولا ناصر في الحقيقة سواه عزوجل ، وفي هذا إشارة إلى أن قصارى الكمال الاعتصام بالله تعالى وتحقيق مقام العبودية وهو وراء التسمية والاجتباء ، ويجوز أن يكون (هُوَ مَوْلاكُمْ) تتميما للاجتباء وليس بذاك هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) كيد عدوهم من الشيطان والنفس (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) ويدخل في ذلك الشيطان والنفس ، وصدق الوصفين عليهما ظاهر جدا بل لا خوان ولا كفور مثلهما (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ) إلخ فيه إشارة إلى حال أهل التمكين وأنهم مهديون هادون فلا شطح عندهم ولا يضل أحد بكلماتهم (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى (١) عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قيل : في القرية الظالمة إشارة إلى القلب الغافل عن الله تعالى ، وفي البئر المعطلة إشارة إلى الذهن الذي لم يستخرج منه الأفكار الصافية ، وفي القصر المشيد إشارة إلى البدن المشتمل على حجرات القوى.
(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فيه إشارة إلى سوء حال المحجوبين المنكرين فإن قلوبهم عمي عن رؤية أنوار أهل الله تعالى فإن لهم أنوارا لا ترى إلا بعين القلب وبهذه العين تدرك حقائق الملك ودقائق الملكوت ، وفي الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله» (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) قد تقدم الكلام في اليوم وانقسامه فتذكر (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) أي ستر عن الأغيار من أن يقفوا على حقيقتهم كما يشير ما يروونه من الحديث القدسي «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم أحد غيري» (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهو العلم اللدني الذي به غذاء الأرواح.
وقال بعضهم : رزق القلوب حلاوة العرفان ورزق الأسرار ومشاهدة الجمال ورزق الأرواح مكاشفة الجلال وإلى هذا الرزق يشير عليه الصلاة والسلام بقوله : «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» والإشارة في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) الآيات على قول من زعم صحة حديث الغرانيق إلى أنه ينبغي أن يكون العبد فناء في إرادة مولاه عزوجل وإلا ابتلى بتلبيس الشيطان ليتأدب ولا يبقى ذلك التلبيس لمنافاته الحكمة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة (ثُمَّ قُتِلُوا) بسيف الصدق والرياضة (أَوْ ماتُوا) بالجذبة عن أوصاف البشرية (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) هو رزق دوام الوصلة كما قيل : أو هو كالرزق الكريم (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) فيه إشارة إلى نصر السالك