صغارا وعظاما حسبما تقتضيه الحكمة وذلك التصيير بالتصليب لما يراد جعله عظاما من المضغة ؛ وهذا أيضا تصيير بحسب الوصف فيكون من الباب الأول.
وفي كلام العلامة البيضاوي إشارة ما إلى مجموع ما ذكرنا وهو يستلزم القول بأن النطفة والعلقة متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بالأعراض كالحمرة والبياض مثلا وكذا المضغة والعظام متحدان في الحقيقة وإنما الاختلاف بنحو الرخاوة والصلابة وأن العلقة والمضغة مختلفان في الحقيقة كما أنهما مختلفان بالأعراض.
والظاهر أنه تتعاقب في جميع هذه الأطوار على مادة واحدة صور حسب تعاقب الاستعدادات إلى أن تنتهي إلى الصورة الإنسانية ، ونحن نقول به إلى أن يقوم الدليل على خلافه فتدبر (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ) المعهودة (لَحْماً) أي جعلنا ساترا لكل منها كاللباس ، وذلك اللحم يحتمل أن يكون من لحم المضغة بأن لم تجعل كلها عظاما بل بعضها ويبقى البعض فيمد على العظام حتى يسترها ، ويحتمل أن يكون لحما آخر خلقه الله تعالى على العظام من دم في الرحم.
وجمع (الْعِظامَ) دون غيرها مما في الأطوار لأنها متغايرة هيئة وصلابة بخلاف غيرها ألا ترى عظم الساق وعظم الأصابع وأطراف الأضلاع ، وعدة العظام مطلقا على ما قيل مائتان وثمانية وأربعون عظما وهي عدة رحم بالجمل الكبير ، وجعل بعضهم هذه عدة أجزاء الإنسان والله تعالى أعلم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبان والمفضل والحسن وقتادة وهارون والجعفي ويونس عن أبي عمرو وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما بإفراد (الْعِظامَ) في الموضعين اكتفاء باسم الجنس الصادق على القليل والكثير مع عدم اللبس كما في قوله : «كلوا في بعض بطنكم تعفوا». واختصاص مثل ذلك بالضرورة على ما نقل عن سيبويه لا يخلو عن نظر ، وفي الإفراد هنا مشاكلة لما ذكر قبل في الأطوار كما ذكره ابن جني.
وقرأ السلمي وقتادة أيضا والأعرج والأعمش ومجاهد وابن محيصن بإفراد الأول وجمع الثاني.
وقرأ أبو رجاء وإبراهيم بن أبي بكر ومجاهد أيضا بجمع الأول وإفراد الثاني (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعل حيوانا ناطقا سميعا بصيرا وأودع كل عضو منه وكل جزء عجائب وغرائب لا تدرك بوصف ولا تبلغ بشرح ، ومن هنا قيل :
وتزعم أنك جرم صغير |
|
وفيك انطوى العالم الأكبر |
وقيل الخلق الآخر الروح والمراد بها النفس الناطقة. والمعنى أنشأنا له أو فيه خلقا آخر ، والمتبادر من إنشاء الروح خلقها وظاهر العطف بثم يقتضي حدوث البدن وهو قول أكثر الإسلاميين وإليه ذهب أرسطو ، وقيل إنشاؤها نفخها في البدن وهو عند بعض عبارة عن جعلها متعلقة به ، وعند أكثر المسلمين جعلها سارية فيه ، وإذا أريد بالروح الروح الحيوانية فلا كلام في حدوثها بعد البدن وسريانها فيه ، وقيل : الخلق الآخر القوى الحساسة ، وقال الضحاك ويكاد يضحك منه فيما أخرجه عنه عبد بن حميد : الخلق الآخر الأسنان والشعر فقيل له : أليس يولد وعلى رأسه الشعر؟ فقال : فأين العانة والإبط ، وما أشرنا إليه من كون (ثُمَ) للترتيب الزماني هو ما يقتضيه أكثر استعمالاتها ، ويجوز أن تكون للترتيب الرتبي فإن الخلق الثاني أعظم من الأول ورتبته أعلى وجاءت المعطوفات الأول بعضها بثم وبعضها بالفاء ولم يجىء جميعها بثم أو بالفاء مع صحة ذلك في مثلها للإشارة إلى تفاوت الاستحالات فالمعطوف بثم مستبعد حصوله مما قبله فجعل الاستبعاد عقلا أو رتبة بمنزلة التراخي والبعد الحسي لأن حصول النطفة من أجزاء ترابية غريب جدا وكذا جعل النطفة البيضاء السيالة دما أحمر جامدا بخلاف جعل الدم لحما مشابها له في اللون والصورة