وقوله تعالى : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) تعليل للنهي عن الجؤار ببيان عدم نفعه ؛ ومن ابتدائية أي لا يلحقكم منا نصرة تنجيكم مما أنتم فيه ، وجوز أن تكون من صلة النصر وضمن معنى المنع أو تجوز به عنه أي لا تمنعون منا. وتعقب بأنه لا يساعده سباق النظم الكريم لأن جؤارهم ليس إلى غيره تعالى حتى يرد عليهم بعدم منصوريتهم من قبله تعالى ولا سياقه فإن قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) إلى آخره صريح في أنه تعليل لعدم لحوق النصر من جهته تعالى بسبب كفرهم بالآيات ولو كان النصر المنفي متوهما من الغير لعلل بعجزه أو بعزة الله تعالى وقوته ، وأنت تعلم أنهم المشركون الذين شركاؤهم نصب أعينهم ولم يقيد الجؤار بكونه إلى الله تعالى وأمر التعليل سهل ، وقد يقال : المعنى على هذا الوجه دعوى الصراخ فإنه لا يمنعكم منا ولا ينفعكم عندنا فقد ارتكبتم أمرا عظيما وإثما كبيرا لا يدفعه ذلك ، ثم لا يخفى ما في كلام المتعقب بعد ، والمراد قد كانت آياتي تتلى عليكم قبل أن يأخذ مترفيكم العذاب (فَكُنْتُمْ) عند تلاوتها (عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) أي تعرضون عن سمائها أشد الإعراض فضلا عن تصديقها والعمل بها ، والنكوص الرجوع ، والأعقاب جمع عقب وهو مؤخر الرجل ورجوع الشخص على عقبه رجوعه في طريقه الأولى كما يقال رجع عوده على بدئه ، وجعل بعضهم التقييد بالأعقاب من باب التأكيد كما في بصرته بعيني بناء على أن النكوص الرجوع قهقرى وعلى الأعقاب ، وأيا ما كان فهو مستعار للإعراض.
وقرأ عليّ كرّم الله تعالى وجهه «تنكصون» بضم الكاف (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) أي بالبيت الحرام. والباء للسببية ، وسوغ هذا الإضمار مع أنه لم يجر له ذكر اشتهار استكبارهم وافتخارهم بأنهم خدام البيت وقوامه وهذا ما عليه جمهور المفسرين ، وقريب منه كون الضمير للحرام ، وقال في البحر : الضمير عائد على المصدر الدال عليه «تنكصون» وتعقب بأنه لا يفيد كثير معنى فإن ذلك مفهوم من جعل مستكبرين حالا. واعترض عليه بما فيه بحث ، وذكر منذر بن سعيد أن الضمير لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ويحسنه أن في قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) دلالة عليه عليه الصلاة والسلام ، والباء إما للتعدية على تضمين الاستكبار معنى التكذيب أو جعله مجازا عنه وإما للسببية لأن استكبارهم ظهر ببعثته صلّى الله عليه وسلّم. وجوز أن يعود على القرآن المفهوم من الآيات أو عليها باعتبار تأويلها به وأمر الباء كما سمعت آنفا ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله تعالى : (سامِراً) أي تسمرون بذكر القرآن والطعن فيه ؛ وذلك أنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون وكانت عامة سمرهم ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا ، والمعنى على ذاك وإن لم يعلق به (بِهِ) ويجوز على تقدير تعلقه بسامرا عود الضمير على النبي عليه الصلاة والسلام ، وكذا يجوز كون المعنى عليه وإن لم يعلق به ، وقيل : هي متعلقة بتهجرون وفيه من البعد ما فيه ، ونصب «سامرا» على الحال وهو اسم جمع كالحاج والحاضر والجامل والباقر ، وقيل : هو مصدر وقع حالا على التأويل المشهور فهو يشمل القليل والكثير باعتبار أصله ؛ ولا يخفى أن مجيء المصدر على وزن فاعل نادر ومنه العافية والعاقبة.
والسمر في الأصل ظل القمر وسمي بذلك على ما في المطلع لسمرته ، وفي البحر هو ما يقع على الشجر من ضوء القمر ، وقال الراغب : هو سواد الليل ثم أطلق على الحديث بالليل ، وفسر بعضهم السامر بالليل المظلم ، وكونه هنا بهذا المعنى وجعله منصوبا بما بعده على نزع الخافض ليس بشيء ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس وأبو حيوة وابن محيصن وعكرمة والزعفراني ومحبوب عن أبي عمرو «سمرا» بضم السين وشد الميم مفتوحة جمع سامر ، وابن عباس أيضا ، وزيد بن علي وأبو رجاء وأبو نهيك «سمارا» بزيادة ألف بعد الميم وهو جمع سامر أيضا وهما جمعان مقيسان في مثل ذلك (تَهْجُرُونَ) من الهجر بفتح فسكون بمعنى القطع والترك ، والجملة في موضع الحال أي تاركين الحق أو القرآن أو النبي صلىاللهعليهوسلم ، وعن ابن عباس تهجرون البيت ولا تعمرونه بما يليق به من العبادة.