يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإنه كل الأنوار والنور الكلي لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره ، ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول ، ثم عرفت أن السماوات والأرض مشحونة نورا من طبقتين النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك.
وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا هو الكل بل هو هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون : لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة ، وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضا ، وأنت تعلم أنه مما لا يهتدى إليه بنور الاستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدى إليه إلا بنور الله عزوجل.
وجوز بعض المحققين كون المراد من النور في الآية الموجد كأنه قيل : الله موجد السماوات والأرض ، ووجه ذلك بأنه مجاز مرسل باعتبار لازم معنى النور وهو الظهور في نفسه وإظهاره لغيره وقيل : هو استعارة والمستعار منه النور بمعنى الظاهر بنفسه المظهر لما سواه والمستعار له الواجب الوجود الموجد لما عداه ، وكون المراد به مفيض الإدراك ومعطيه مجازا مرسلا أو استعارة والكلام على حذف مضاف أي نور أهل والسماوات والأرض ، وهذا قريب مما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : الله نور السماوات والأرض هادي أهل السماوات والأرض وهو وجه حسن ، وجاء في رواية أخرى أخرجها ابن جرير عنه رضي الله تعالى عنه أنه فسر النور بالمدبر فقال : الله نور السماوات والأرض يدبر الأمر فيهما ، وروي ذلك عن مجاهد أيضا ، وجعل ذلك بعضهم من التشبيه البليغ.
ووجه الشبه كون كل من التدبير والنور سبب الاهتداء إلى المصالح. وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية. وتعقب بأن ذكر طرفي التشبيه وهو الله تعالى والنور ينافي ذلك وأجيب بأن ذكرهما إنما ينافيه إذا كان على وجه ينبئ عن التشبيه وكان كل من المشبه والمشبه به مذكورا بعينه وهنا لم يشبه الله سبحانه بالنور بل شبه المدبر به وذكر جزئي يصدق عليه المشبه أو كلي يشمله لا ينافي ذلك كما أشار إليه صاحب الكشاف في مواضع منه وصرح به أهل المعاني ، وقيل : المراد به المنزه من كل عيب ، ومن ذلك قولهم : امرأة نوار أي بريئة من الريبة بالفحشاء وهو من باب المجاز أيضا ، وقيل : الكلام على حذف مضاف كما في زيد كرم أي ذو نور ، ويؤيده كما قيل قوله تعالى بعد (مَثَلُ نُورِهِ) و (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ).
وقيل : نور بمعنى منور وروي ذلك عن الحسن وأبي العالية والضحاك وعليه جماعة من المفسرين ، ويؤيده قراءة بعضهم «منور» وكذا قراءة علي كرم الله تعالى وجهه وأبي جعفر وعبد العزيز المكي وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة والقورصي ومسلمة بن عبد الملك وأبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن عباس بن أبي ربيعة «نوّر» فعلا ماضيا «والأرض» بالنصب ، وتنويره سبحانه السماوات والأرض قيل بالشمس والقمر وسائر الكواكب ونسب إلى الحسن ومن معه ، وقيل : تنوير السماوات بالملائكة عليهمالسلام وتنوير الأرض بالأنبياء عليهمالسلام والعلماء ونسب إلى أبيّ بن كعب ، والتنوير على الأول حسي وعلى الثاني عقلي. وقيل وهو الذي اختاره : تنويره سبحانه إياهما بما فيهما من الآيات التكوينية والتنزيلية الدالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته عزوجل والهادية إلى صلاح