مذهب جمهور أئمة اللغة كما قال العلامة الثاني في التلويح ودليل ذلك النص والإطلاق والمعنى ، أما النص فقوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] وقوله سبحانه : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس : ٥] وقوله سبحانه : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٣] وأما الإطلاق فمن وجهين ، الأول أن (ما) قد تطلق بمعنى الذي باتفاق أهل اللغة والذي يصح إطلاقه على من يعقل بدليل قولهم الذي جاء زيدا فما كذلك ، الثاني أنه يصح أن يقال ما في داري من العبيد أحرار ، وأما المعنى فمن وجهين أيضا ، الأول أن مشركي قريش كما جاء من عدة طرق عن ابن عباس لما سمعوا هذه الآية اعترضوا بعيسى وعزير والملائكة عليهمالسلام. وهم من فصحاء العرب فلو لم يفهموا العموم لما اعترضوا ، الثاني أن (ما) لو كانت مختصة بغير العالم لما احتيج إلى قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) وحيث كانت بعمومها متناولة له عزوجل احتيج إلى التقييد بقوله سبحانه (مِنْ دُونِ اللهِ) وحينئذ تكون الآية شاملة عبادة لأولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام ويكون الجواب الذي تولاه الله تعالى بنفسه جوابا بالتخصيص ، وفي ذلك حجة للشافعي في قوله بجواز تخصيص العام بكلام مستقل متراخ خلافا للحنفية. وأجيب بأن ما ذكر من النصوص والإطلاقات فغايته جواز اطلاق (ما) على من يعلم لا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه أو فيما يعمه بل هي ظاهرة في غير العالم لا سيما هنا لأن الخطاب مع عبدة الأصنام وإذا كانت ظاهرة فيما لا يعقل وجب تنزيلها عليه ، وما ذكر من الوجه الأول في المعنى فليس بنص في أن المعترضين إنما اعترضوا لفهمهم العموم من (ما) وضعا لجواز أن يكون ذلك لفهمهم إياه من دلالة النص كما مر ، وما ذكر من الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) فإنما يصح أن لو لم تكن فيه فائدة ، وفائدته مع التأكيد تقبيح ما كانوا عليه ، وإن سلمنا أن (ما) حقيقة فيمن يعقل فلا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية فإن دليل العقل صالح للتخصيص خلافا لطائفة شاذة من المتكلمين ، والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير ، وأحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا المسيح وعزير والملائكة عليهمالسلام بعبادة من عبدهم وما مثل هذا الدليل العقلي فلا نسلم عدم مقارنته للآية ، وأما قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) الآية فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي مع الاستغناء عن أصله أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا ، وعدم تعرضه صلىاللهعليهوسلم للدليل العقلي لم يكن لأنه لم يكن بل لأنه عليه الصلاة والسلام لما رآهم لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فاعترضوا بما اعترضوا مع ظهوره انتظر ما يقويه من الدليل السمعي أو لأن الوحي سبقه عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية قبل أن ينبههم على ذلك ، وقيل : إنهم تعنتوا بنوع من المجاز فنزل ما يدفعه ، وقيل : إن هذا خبر لا تكليف فيه والاختلاف في جواز تأخير البيان مخصوص بما فيه تكليف ، وفيه نظر ، وقال العلامة ابن الكمال : لا خلاف بيننا وبين الشافعي في قصر العام على بعض ما يتناوله بكلام مستقل متراخ إنما الخلاف في أنه تخصيص حتى يصير العام به ظنيا في الباقي أو نسخ حتى يبقى على ما كان فلا وجه للاحتجاج بقوله تعالى : (وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) لأن الثابت به على تقدير التمام قصر العام بالمتراخي والخلاف فيما وراءه والدليل قاصر عن بيانه ولا للجواب بأن تعبدون لا يتناول عيسى وعزيرا والملائكة عليهمالسلام لا لأن (ما) لغير العقلاء لما أنه على خلاف ما عليه الجمهور بل لأنهم ما عبدوا حقيقة على ما أفصح عنه صلىاللهعليهوسلم حين قال ابن الزبعري : أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنوا مليح عبدوا الملائكة بقوله صلىاللهعليهوسلم : بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ) الآية لدفع ذهاب الوهم إلى التناول لهم نظرا إلى الظاهر.
وجوابه صلىاللهعليهوسلم بذلك مما رواه ابن مردويه والواحدي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه فأنزل الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) الآية ، وعلى وفق هذا ورد جواب الملائكة عليهمالسلام في قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً