بنوها ليهتدوا بها في أسفارهم والنجوم تغني عنها. واعترض بأن الحاجة تدعو لذلك لغيم مطبق أو ما يجري مجراه. وأجيب بأن الغيم نادر لا سيما في ديار العرب مع أنه لو احتيج إليها لم يحتج إلى أن تجعل في كل ريع فيكون بناؤها كذلك عبثا.
وقال الفاضل اليمني : إن أماكنها المرتفعة تغني عنها فهي عبث ، وقيل : كانوا يبنون ذلك ليشرفوا على المارة والسابلة فيسخروا منهم ويعبثوا بهم : وروي ذلك عن الكلبي والضحاك ، وعن مجاهد وابن جبير أن الآية برج الحمام كانوا يبنون البروج في كل ريع ليلعبوا بالحمام ويلهوا به ، وقيل : بيت العشار يبنونه بكل رأس طريق فيجلسون فيه ليعشروا مال من يمر بهم. وله نظير في بلادنا اليوم ، ولا مستعان إلا بالله العلي العظيم.
والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة على بعض الأقوال (وَتَتَّخِذُونَ) أي تعملون (مَصانِعَ) أي مآخذ للماء ومجاري تحت الأرض كما روي عن قتادة ، وفي رواية أخرى عنه أنها برك الماء. وعن مجاهد أنها القصور المشيدة ، وقيل : الحصون المحكمة. وأنشدوا قول لبيد :
وتبقى جبال بعدنا ومصانع
وليس بنص في المدعي (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) أي راجين أن تخلدوا في الدنيا أو عاملين عمل من يرجو الخلود فيها فلعل على بابها من الرجاء ، وقيل : هي للتعليل وفي قراءة عبد الله كي تخلدون.
وقال ابن زيد : هي للاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم أي هل أنتم تخلدون ، وكون لعل للاستفهام مذهب كوفي ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : المعنى كأنكم خالدون وقرئ بذلك كما روي عن قتادة ، وفي حرف أبي «كأنكم تخلدون» وظاهر ما ذكر أن لعل هنا للتشبيه ، وحكي ذلك صريحا الواقدي عن البغوي.
وفي البرهان هو معنى غريب لم يذكره النحاة. ووقع في صحيح البخاري أن لعل في الآية للتشبيه انتهى.
وقرأ قتادة «تخلدون» مبنيا للمفعول مخففا ويقال : خلد الشيء وأخلده غيره ، وقرأ أبي وعلقمة «تخلّدون» مبنيا للمفعول مشددا كما قال الشاعر :
وهل يعمن إلا سعيد مخلد |
|
قليل هموم ما يبيت بأوجال |
(وَإِذا بَطَشْتُمْ) أي أردتم البطش بسوط أو سيف (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) مسلطين غاشمين بلا رأفة ولا قصد تأديب ولا نظر في العاقبة. وأول الشرط بما ذكر ليصح التسبب وتقييد الجزاء بالحال لا يصححه لأن المطلق ليس سببا للمقيد ، وقيل : لا يضر الاتحاد لقصد المبالغة ، وقيل : الجزائية باعتبار الإعلام والأخبار وهو كما ترى. ونظير الآية قوله :
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
ودل توبيخه عليهالسلام إياهم بما ذكر على استيلاء حب الدنيا والكبر على قلوبهم حتى أخرجهم ذلك عن حد العبودية (فَاتَّقُوا اللهَ) واتركوا هذه الأفعال (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم إليه فإنه أنفع لكم (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) أي بالذي تعرفونه من النعم فما موصولة والعائد محذوف والعلم بمعنى المعرفة ، وقوله تعالى : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) منزل منزلة بدل البعض كما ذكره غير واحد من أهل المعاني ، ووجهه عندهم أن المراد التنبيه على نعم الله تعالى والمقام يقتضي اعتناء بشأنه لكونه مطلوبا في نفسه أو ذريعة إلى غيره من الشكر بالتقوى ، وقوله سبحانه :