وقوله تعالى : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) متعلق بنزل أي نزل به لتنذرهم بما في تضاعيفه من العقوبات الهائلة. وإيثار ما في النظم الكريم للدلالة على انتظامه صلىاللهعليهوسلم في سلك أولئك المنذرين المشهورين في حقية الرسالة وتقرر العذاب المنذر به ، وكذا قوله سبحانه : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) متعلق بنزل عند جمع من الأجلة ويكون حينئذ على ما قال الشهاب بدلا من (بِهِ) بإعادة العامل ، وتقديم (لِتَكُونَ) إلخ للاعتناء بأمر الإنذار ولئلا يتوهم أن كونه عليه الصلاة والسلام من جملة المنذرين المذكورين متوقف على كون الإنزال بلسان عربي مبين ، واستحسن كون الباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير (بِهِ) أي نزل به ملتبسا بلغة عربية واضحة المعنى ظاهرة المدلول لئلا يبقى لهم عذر ، وقيل : بلغة مبينة لهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم ودنياهم على أن (مُبِينٍ) من أبان المتعدي ، والأول أظهر.
وجوز أن تعلق الجار والمجرور بالمنذرين أي لتكون من الذين أنذروا بلغة العرب وهم هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، وزاد بعضهم خالد بن سنان وصفوان بن حنظلة عليهماالسلام. وتعقب بأنه يؤدي إلى أن غاية الإنذار كونه عليهالسلام من جملة المنذرين باللغة العربية فقط من هود وصالح وشعيب عليهمالسلام ، ولا يخفى فساده كيف لا ، والطامة الكبرى في باب الإنذار ما أنذره نوح وموسى عليهماالسلام ، وأشد الزواجر تأثيرا في قلوب المشركين ما أنذره إبراهيم عليهالسلام لانتمائهم إليه وادعائهم أنهم على ملته عليهالسلام ، وذكر بعضهم أن المراد على هذا الوجه أنك أنذرتهم كما أنذر آباؤهم الأولون وأنك لست بمبتدع بهذا فكيف كذبوك ، والحق أن الوجه المذكور دون الوجه السابق ، وأما أنه فاسد معنى كما يقتضيه كلام المتعقب فلا.
(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي وإنّ ذكر القرآن لفي الكتب المتقدمة على أن الضمير للقرآن والكلام على حذف مضاف وهذا كما يقال : إن فلانا في دفتر الأمير. وقيل : المراد وإن معناه لفي الكتب المتقدمة وهو باعتبار الأغلب فإن التوحيد وسائر ما يتعلق بالذات والصفات وكثيرا من المواعظ والقصص مسطور في الكتب السابقة فلا يضران منه ما ليس في ذلك بحسب الظن الغالب كقصة الإفك وما كان في نكاح امرأة زيد وما تضمنه صدر سورة التحريم وغير ذلك. واشتهر عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه جوز قراءة القرآن بالفارسية والتركية والهندية وغير ذلك من اللغات مطلقا استدلالا بهذه الآية. وفي رواية تخصيص الجواز بالفارسية لأنها أشرف اللغات بعد العربية لخبر لسان أهل الجنة العربي والفارسي الدري. وفي رواية أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية إذا كان ثناء كسورة الإخلاص أما إذا كان غيره فلا تجوز ، وفي أخرى أنها إنما تجوز بالفارسية في الصلاة إذا كان المصلي عاجزا عن العربية وكان المقروء ذكرا وتنزيها أما القراءة بها في غير الصلاة أو في الصلاة وكان القارئ يحسن العربية أو في الصلاة وكان القارئ عاجزا عن العربية لكن كان المقروء من القصص والأوامر والنواهي فإنها لا تجوز ، وذكر أن هذا قول صاحبيه. وكان رضي الله تعالى عنه قد ذهب إلى خلافه ثم رجع عنه إليه. وقد صحح رجوعه عن القول بجواز القراءة بغير العربية مطلقا جمع من الثقات المحققين. وللعلامة حسن الشرنبلالي رسالة في تحقيق هذه المسألة سماها النفحة القدسية في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسية فمن أراد التحقيق فليرجع إليها. وكان رجوع الإمام عليه الرحمة عما اشتهر عنه لضعف الاستدلال بهذه الآية عليه كما لا يخفى على المتأمل.
وفي الكشف أن القرآن كان هو المنزل للإعجاز إلى آخر ما يذكر في معناه فلا شك أن الترجمة ليست بقرآن وإن كان هو المعنى القائم بصاحبه فلا شك أنه غير ممكن القراءة ، فإن قيل : هو المعنى المعبر عنه بأي لغة كان قلنا لا شك في اختلاف الأسامي باختلاف اللغات وكما لا يسمى القرآن بالتوراة لا يسمى التوراة بالقرآن فالأسماء لخصوص