بالتبادر نظرا إلى أول الكلام. والأول بأنه أنسب بقوله لقوي : (أَمِينٌ) لا أقتطع منه شيئا ولا أبدله (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) فصله عما قبله للإيذان بما بين القائلين ومقالتيهما وكيفيتي قدرتيهما على الإتيان به من كمال التباين أو لإسقاط الأول عن درجة الاعتبار. واختلف في تعيين هذا القائل فالجمهور ومنهم ابن عباس ويزيد بن رومان والحسن على أنه آصف بن برخيا بن شمعيا بن منكيل ، واسم أمه باطورا من بني إسرائيل كان وزير سليمان على المشهور ، وفي مجمع البيان أنه وزيره وابن أخته وكان صديقا يعلم الاسم الأعظم ، وقيل كان كاتبه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد أنه رجل اسمه اسطوم ، وقيل : أسطورس.
وأخرج ابن أبي حاتم عن زهير بن محمد أنه رجل يقال له ذو النور. وأخرج هو أيضا عن ابن لهيعة أنه الخضر عليهالسلام ، وعن قتادة أن اسمه مليخا ؛ وقيل : ملخ ، وقيل : تمليخا ، وقيل : هود ، وقالت جماعة هو ضبة بن أد جد بني ضبة من العرب وكان فاضلا يخدم سليمان كان على قطعة من خيله ، وقال النخعي هو جبريل عليهالسلام ، وقيل : هو ملك آخر أيد الله تعالى به سليمان عليهالسلام ، وقال الجبائي : هو سليمان نفسه عليهالسلام.
ووجه الفصل عليه واضح فإن الجملة حينئذ مستأنفة استئنافا بيانيا كأنه قيل : فما قال سليمان عليهالسلام حين قال العفريت ذلك؟ فقيل : قال إلخ ويكون التعبير عنه بما في النظم الكريم للدلالة على شرف العلم وأن هذه الكرامة كانت بسببه ، ويكون الخطاب في قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) للعفريت وإنما لم يأت به أولا بل استفهم القوم بقوله : (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها) ثم قال ما قال وأتى به قصدا لأن يريهم أنه يتأتى له ما لا يتهيأ لعفاريت الجن فضلا عن غيرهم. وتخصيص الخطاب بالعفريت لأنه الذي تصدى لدعوى القدرة على الإتيان به من بينهم ، وجعله لكل أحد كما في قوله تعالى : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : ٣] غير ظاهر بالنسبة إلى ما ذكر.
وآثر هذا القول الإمام وقال إنه أقرب لوجوه. الأول أن الموصول موضوع في اللغة لشخص معين بمضمون الصلة المعلومة عند المخاطب والشخص المعلوم بأن عنده علم الكتاب هو سليمان وقد تقدم في هذه السورة ما يستأنس به لذلك فوجب إرادته وصرف اللفظ إليه وآصف وإن شاركه في مضمون الصلة لكن هو فيه أتم لأنه نبي وهو أعلم بالكتاب من أمته ، الثاني إن إحضار العرش في تلك الساعة اللطيفة درجة عالية فلو حصلت لأحد من أمته دونه لاقتضى تفضيل ذلك عليهالسلام وأنه غير جائز ، الثالث أنه لو افتقر في إحضاره إلى أحد من أمته لاقتضى قصور حاله في أعين الناس.
الرابع أن ظاهر قوله عليهالسلام فيما بعد (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) إلخ يقتضي أن ذلك الخارق قد أظهره الله تعالى بدعائه عليهالسلام ا ه. وللمناقشة فيه مجال. واعترض على هذا القول بعضهم بأن الخطاب في (آتِيكَ) يأباه فإن حق الكلام عليه أن يقال : أنا آتي به قبل أن يرتد إلى الشخص طرفه مثلا ، وقد علمت دفعه. وبأن المناسب أن يقال فيما بعد ـ فلما أتى به ـ دون (فَلَمَّا رَآهُ) إلخ. وأجيب عن هذا بأن قوله ذاك للإشارة إلى أنه لا حول ولا قوة له فيه ، ولعل الأظهر أن القائل أحد أتباعه ، ولا يلزم من ذلك أنه عليهالسلام لم يكن قادرا على الإتيان به كذلك فإن عادة الملوك تكليف أتباعهم بمصالح لهم لا يعجزهم فعلها بأنفسهم فليكن ما نحن فيه جاريا على هذه العادة ، ولا يضر في ذلك كون الغرض مما يتم بالقول وهو الدعاء ولا يحتاج إلى أعمال البدن وأتعابه كما لا يخفى.
وفي فصوص الحكم كان ذلك على يد بعض أصحاب سليمان عليهالسلام ليكون أعظم لسليمان في نفوس الحاضرين ، وقال القيصري : كان سليمان قطب وقته ومتصرفا وخليفة على العالم وكان آصف وزيره وكان كاملا