الاستقامة في كل أمر من الأمور فلذلك يفعلون ما يفعلون من العدول عن الحق الواضح الذي هو التوحيد والعكوف على الباطل البين الذي هو الإشراك ، وقيل : من العدل بمعنى المساواة أي يساوون به غيره تعالى من آلهتهم ، وروي ذلك عن ابن زيد ، والأول أنسب بما قبله ، وقيل : الكلام عليه خال عن الفائدة.
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) أي جعلها بحيث يستقر عليها الإنسان والدواب بإبداء بعضها من الماء ودحوها وتسويتها حسبما يدور عليه منافعهم ـ فقرارا ـ بمعنى مستقرا لا بمعنى قارة غير مضطربة كما زعم الطبرسي فإن الفائدة على ذلك أتم ، والجعل إن كان تصييريا فالمنصوبان مفعولان وإلا فالثاني حال مقدرة ، وجملة قوله تعالى : (أَمَّنْ جَعَلَ) إلخ على ما قيل : بدل من قوله سبحانه : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ) إلى آخر ما بعدها من الجمل الثلاث وحكم الكل واحد ، وقال بعض الأجلة : الأظهر أن كل واحدة منها إضراب وانتقال من التبكيت بما قبلها إلى التبكيت بوجه آخر داخل في الإلزام بجهة من الجهات ، وإلى الإبدال ذهب صاحب الكشاف ، وسننقل إن شاء الله تعالى عن صاحب الكشف ما فيه الكشف عن وجهه (وَجَعَلَ خِلالَها) أي أوساطها جمع خلل ، وأصله الفرجة بين الشيئين فهو ظرف حل محل الحال من قوله تعالى : (أَنْهاراً) وساغ ذلك مع كونه نكرة لتقدم الحال أو المفعول الثاني ـ لجعل ـ و (أَنْهاراً) هو المفعول الأول ، والمراد بالأنهار ما يجري فيها لا المحل الذي هو الشق أي جعل خلالها أنهارا جارية تنتفعون بها (وَجَعَلَ لَها) أي لصلاح أمرها (رَواسِيَ) أي جبالا ثوابت فإن لها مدخلا عاديا اقتضته الحكمة في انكشاف المسكون منها وانحفاظها عن الميد بأهلها ؛ وتكون المياه الممدة للأنهار المفضية لنضارتها في حضيضها إلى غير ذلك ، وذكر بعضهم في منفعة الجبال تكوّن المعادن فيها ونبع المنابع من حضيضها ولم يتعرض لمنفعة منعها الأرض عن الحركة والميلان ، وعلل ترك التعرض بأنه لو كان المقصود ذلك لذكر عقب جعل الأرض قرارا ، ومن أنصف رأى أن منع الجبال الأرض عن الحركة والميلان اللذين يخرجان الأرض عن حيز الانتفاع ويجعلان وجودها كعدمها من أهم ما يذكر هنا لأنه مما به صلاح أمرها ورفعة شأنها ، وذكر (لَها) دون فيها أو عليها ظاهر في أن المراد ما هو من هذا القبيل من المنافع فتأمل.
وإرجاع ضمير (لَها) للأنهار ليكون المعنى وجعل لإمدادها رواسي ينبع من حضيضها الماء فيمدها لا يخفى ما فيه (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) أي العذب والملح ـ عن الضحاك ـ أو بحري فارس والروم ـ عن الحسن ـ أو بحري العراق والشام ـ عن السدي ـ أو بحري السماء والأرض ـ عن مجاهد ـ (حاجِزاً) فاصلا يمنع من الممازجة ، وقد مر الكلام في تحقيق ذلك فتذكر (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) في الوجود أو في إبداع هذه البدائع على ما مر (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي شيئا من الأشياء معتدا به ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) وهو الذي أحوجته شدة من الشدائد وألجأته إلى اللجأ والضراعة إلى الله عزوجل ، فهو اسم مفعول من الاضطرار الذي هو افتعال من الضرورة ، ويرجع إلى هذا تفسير ابن عباس له بالمجهود ، وتفسير السدي بالذي لا حول ولا قوة له ، وقيل : المراد بذلك المذنب إذا استغفر ، واللام فيه على ما قيل : للجنس لا للاستغراق حتى يلزم إجابة كل مضطر وكم من مضطر لا يجاب.
وجوز حمله على الاستغراق لكن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما وقع ذلك في قوله تعالى : (فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ) [الأنعام : ٤١] ، ومع هذا كره النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم أن يقول الشخص : اللهم اغفر لي إن شئت ؛ وقال عليه الصلاة والسلام : «إنه سبحانه لا مكره له» ، والمعتزلة يقيدونها بالعلم بالمصلحة لإيجابهم رعاية المصالح عليه جل وعلا ، وقال صاحب الفرائد : ما من مضطر دعا إلا أجيب وأعيد نفع دعائه إليه إما في الدنيا وإما في