وذكر بعضهم في هذا الوجه أنه مناسب لما بعد من وصف القرآن وفيه ما فيه ، وقال الحسن : الغائبة هو يوم القيامة وأهوالها ، وقال صاحب الغنيان : الحوادث والنوازل ، وقيل : أعمال العباد ، وقيل : ما غاب من عذاب السماء والأرض ، والعموم أولى ، وروي ذلك عن ابن عباس ، فقد أخرج ابن جرير. وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية يقول سبحانه : ما من شيء في السماء والأرض سرا وعلانية إلا يعلمه سبحانه وتعالى ، وأخذ منه بعضهم حمل الكتاب على العلم الأزلي ، وفيه نظر لجواز أن يكون قد جعل كون ذلك في كتاب مبين كناية عن علمه تعالى به.
وذهب أبو حيان إلى أنه رضي الله تعالى عنه اعتبر في الآية حذف أحد المتقابلين اكتفاء بالآخر وكلامه رضي الله تعالى عنه محتمل لذلك ، ويحتمل أنه ذكر العلانية في بيان المعنى لأن من علم السر علم العلانية من باب أولى ، ويحتمل أن ذلك لأنه ما من علانية إلا وهي غيب بالنسبة إلى بعض الأشخاص ، فيكون قد أشار رضي الله تعالى عنه ببيان المعنى وذكر السر والعلانية فيه إلى أن المراد ـ بغائبة ـ في الآية ما يشملهما وهو ما اتصف بالغيبة أعم من أن تكون مطلقة أو إضافية كذا قيل فتدبر.
(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) لما ذكر سبحانه ما يتعلق بالمبدإ والمعاد ذكر تعالى ما يتعلق بالنبوة فإن القرآن أعظم ما تثبت به نبوة نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فذكر جل وعلا أنه يقص على بني إسرائيل ، والمراد بهم ـ كما روي عن قتادة ـ اليهود والنصارى أكثر ما تجدد واستمر اختلافهم فيه على وجهه ويبين لهم حقيقة الأمر فيه وذلك مما يقتضي إسلامهم لو تأملوا وأنصفوا لكنهم لم يفعلوا وكابروا مثلكم أيها المشركون ، ومما اختلفوا فيه أمر المسيح عليهالسلام ، فمن قائل : هو الله تعالى ، ومن قائل : ابن الله سبحانه ، ومن قائل : ثالث ثلاثة ، ومن قائل : هو نبي كغيره من الأنبياء عليهمالسلام ، ومن قائل : هو ـ وحاشاه ـ كاذب في دعواه النبوة وينسب مريم فيه إلى ما هي منزهة عنه رضي الله تعالى عنها وهم اليهود الذين كذبوه ، وأمر النبي المبشر به في التوراة ، فمن قائل : هو يوشع عليهالسلام ، ومن قائل : هو عيسى عليهالسلام ، ومن قائل : إنه لم يأت إلى الآن وسيأتي آخر الزمان ومما اختلفوا فيه أمر الخنزير فقالت اليهود : بحرمة أكله ، وقالت النصارى : بحله إلى غير ذلك.
(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) على الإطلاق فيدخل فيهم من آمن من بني إسرائيل دخولا أوليا ، وتخصيص المؤمنين بهم كما فعل بعضهم خلاف الظاهر ، وتخصيص المؤمنين بالذكر مع أنه رحمة للعالمين لأنهم المنتفعون به (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) أي بين بني إسرائيل الذين اختلفوا أو بين المؤمنين وبين الناس (بِحُكْمِهِ) قيل : أي بحكمته جل شأنه ، ويدل عليه قراءة جناح بن حبيش بحكمه ـ بكسر الحاء وفتح الكاف ـ جمع حكمة مضاف إلى ضميره تعالى ، وقيل : المراد بالحكم المحكوم به إطلاقا للمصدر على اسم المفعول ، والمراد بالمحكوم به الحق والعدل ، وعلى الوجهين لم يبق على المعنى المصدري ، والداعي لذلك أن ـ يقضي ـ بمعنى يحكم فلو بقي الحكم على المعنى المصدري لصار الكلام نحو قولك : زيد يضرب بضربه وهو لا يقال مثله في كلام عربي ، وأورد عليه أنه يصح أن يقال ذلك على معنى يضرب بضربه المعروف بالشدة مثلا ، فالمعنى هنا يحكم بحكمه المعروف بملابسة الحق ، أو يحكم بحكم نفسه تعالى لا بحكم غيره عز شأنه كالبشر ، وقيل عليه : ليس المانع لصحة مثل هذا القول إضافة المصدر إلى ضمير الفاعل فإنه لا كلام في صحته كإضافته إلى ضمير المفعول في ـ سعى لها سعيها ـ إنما المانع دخول الباء على المصدر المؤكد ، ثم إن المعنى الأول يوهم أن له سبحانه حكما غير معروف بملابسة الحق ، والثاني إنما يظهر لو قدم بحكمه ، وفيه أنه على ما ذكر ليس بمصدر مؤكد ، وعدم الجواز في المصدر النوعي لا سيما إذا كان من غير لفظه ليس بمسلم ، وأيضا الظاهر أن المانع بزعم المؤول لزوم اللغوية لو لم يؤول بما ذكر ، والأولى إبقاؤه