ومن الثاني نفي كونه عليه الصلاة والسلام من جماعة جيء بهم ليحضروا فيطلعوا على ما يقع هناك لموسى عليهالسلام لأن المراد بالشاهدين جماعة معهودون كان حالهم ذلك.
وقيل : المراد بالشاهدين الملائكة عليهمالسلام فقد جاء الشاهد اسما للملك كما في القاموس فكأنه قيل : ما كنت حاضرا بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى أمر نبوته بالوحي وما كنت من الملائكة الذين ينزلون ويصعدون بأمر الله تعالى ووحيه إلى أنبيائه عليهمالسلام ولهم من الاطلاع على الحوادث ما ليس لغيرهم من البشر حتى يكون لك علم بما وقع لموسى عليهالسلام فتخبر به الناس.
وقال ابن عباس كما في التفسير الكبير والبحر : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت لما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى ، وقيل : وهو مختار أبي حيان إن المعنى وما كنت من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته عليه الصلاة والسلام جميع ما جرى لموسى عليهالسلام فكان عموما بعد خصوص ، وقيل : المراد وما كنت من الشاهدين ذلك الزمان فيكون نفيا لحضوره ومشاهدته ذلك الزمان أعم من أن يكون بجانب الغربي أو بغيره ، وحاصله نفي الوجود العيني إذ ذاك فيكون ترقيا في النفي.
وقيل : المراد (وَما كُنْتَ) إذ ذاك منتظما في سلك من يتصف بالشهادة وهم الموجودون بالوجود العيني أينما كانوا ومآله كمآل ما قبله وإن اختلفا في طريق الإرادة وتعين كون الشهادة فيما قبله بمعنى الحضور.
ولعل ما قبله أظهر منه بل إذا ادعى مدع كونه أظهر من جميع ما قيل لم يبعد هذا ولا يخفى عليك حال تلك الأقوال وما فيها من القيل والقال ، وفي القلب من صحة نسبة ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إليه ما فيه فتدبر جميع ذاك ، والله تعالى يتولى هداك (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي ولكنا خلقنا بين زمانك وزمان موسى قرونا كثيرة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) وتمادى الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وعميت عليهم الأنباء لا سيما على آخرهم الذين أنت فيهم فاقتضت الحكمة التشريع الجديد وقص الأنباء على ما هي عليه فأوحينا إليك وقصصنا الأنباء عليك فحذف المستدرك أعني أوحينا اكتفاء بذكر ما يوجبه ويدل عليه من إنشاء القرون وتطاول الأمد ؛ وخلاصة المعنى لم تكن حاضرا لتعلم ذلك ولكن علمته بالوحي والسبب فيه تطاول الزمن حتى تغيرت الشرائع وعميت الأنباء ، وقوله تعالى : (وَما كُنْتَ ثاوِياً) أي مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهم شعيب عليهالسلام والمؤمنون نفي لاحتمال كون معرفته صلىاللهعليهوسلم لبعض ما تقدم من القصة بالسماع ممن شاهد ذلك ، وقوله سبحانه : (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) أي تقرأ على أهل مدين بطريق التعلم منهم كما يقرأ المتعلم الدرس على معلمه (آياتِنا) الناطقة بما كان لموسى عليهالسلام بينهم وبما كان لهم معه إما حال من المستكن في ثاويا أو خبر ثان لكنت (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك وموحين إليك تلك الآيات ونظائرها والاستدراك كالاستدراك السابق إلا أنه لا حذف فيه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) أي وقت ندائنا موسى إني أنا الله رب العالمين واستنبائنا إياه وإرسالنا له إلى فرعون (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي ولكن أرسلناك بالقرآن الناطق بما ذكر وغيره لرحمة كائنة منا لك وللناس.
وقيل أي علمناك رحمة ولعل الرحمة عليه مفعول ثان لعلم والمراد بها القرآن وليست مفعولا له والمفعول الثاني ما ذكر من القصة لما ستعرفه قريبا إن شاء الله تعالى ، وأما جعلها منصوبة على المصدرية لفعل محذوف فحاله غني عن البيان والالتفات إلى اسم الرب للإشعار بأن ذلك من آثار الربوبية وتشريفه عليه الصلاة والسلام بالإضافة وقد اكتفى هاهنا عن ذكر المستدرك بذكر ما يوجبه من جهته تعالى كما اكتفى في الأول بذكر ما يوجبه من جهة الناس