لمعاذيرهم بالكلية ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول وكان وجوده بوجودها جعلت كأنها سبب الإرسال بواسطة القول فأدخلت عليا لو لا وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببية ، ونكتة إيثار هذا الأسلوب وعدم جعل العقوبة قيدا مجردا أنهم لو لم يعاقبوا مثلا على كفرهم وقد عاينوا ما ألجئوا به إلى العلم اليقين لم يقولوا لو لا أرسلت إلينا رسولا ، وإنما السبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان بخالقهم ، وفي هذا من الشهادة القوية على استحكام كفرهم ورسوخه فيهم ما لا يخفى كقوله تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] هذا ما أراده صاحب الكشاف ، وليس في الكلام عليه تقدير مضاف كما هو الظاهر.
وذهب بعضهم إلى أن الكلام على تقدير مضاف أي كراهة أن تصيبهم إلخ ، فالسبب للإرسال إنما هو كراهة ذلك لما فيه من إلزام الحجة ولله تعالى الحجة البالغة ، وهذه الكراهة مما لا ريب في تحققها الذي تقتضيه لو لا ودفعوا بهذا التقدير لزوم تحقق الإصابة والقول المذكور وانتفاء عدم الإرسال كما هو مقتضى لو لا ، وفي ذلك ما فيه ، وقال ابن المنير : التحقيق عندي أن لو لا ليست كما قال النحاة تدل على أن ما بعدها موجود أو أن جوابها ممتنع والتحرير في معناها أنها تدل على أن ما بعدها مانع من جوابها عكس لو ، ثم المانع قد يكون موجودا وقد يكون مفروضا وما في الآية من الثاني فلا إشكال فيها ، واستدل بالآية على أن قول من لم يرسل إليه رسول أن عذب : ربي لو لا أرسلت إليّ رسولا مما يصلح للاحتجاج وإلا لما صلح لأن يكون سببا للإرسال وفي ذلك دلالة على أن العقل لا يغني عن الرسول ، والبحث في ذلك شهير ، والكلام فيه كثير (فَلَمَّا جاءَهُمُ) أي أولئك القوم ، والمراد بهم هنا أهل مكة الموجودون عند البعثة وضمائر الجمع الآتية كلها راجعة إليهم. (الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي الأمر الحق وهو القرآن المنزل عليه عليه الصلاة والسلام (قالُوا) تعنتا واقتراحا (لَوْ لا أُوتِيَ) يعنونه عليه الصلاة والسلام (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) عليهالسلام من الكتاب المنزل جملة وقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) رد عليهم وإظهار لكون ما قالوه تعنتا محضا لا طلبا لما يرشدهم إلى الحق و (مِنْ قَبْلُ) متعلق بيكفروا وتعلقه بأوتي لا يظهر له وجه لائح إذ هو تقييد بلا فائدة لأنه معلوم أن ما أوتي موسى عليهالسلام من قبل محمد صلى الله تعالى عليه وسلم أو من قبل هؤلاء الكفرة. نعم أمر الرد عليه على حاله أي ألم يكفروا من قبل هذا القول بما أوتي موسى عليهالسلام كما كفروا بهذا الحق وقوله تعالى : (قالُوا) استئناف مسوق لتقرير كفرهم المستفاد من الإنكار السابق وبيان كيفيته وقوله تعالى : (سِحْرانِ) خبر لمبتدإ محذوف أي هما يعنون ما أوتي نبينا وما أوتي موسى عليهما الصلاة والسلام سحران (تَظاهَرا) أي تعاونا بتصديق كل واحد منهما الآخر وتأييده إياه ، وذلك أن أهل مكة بعثوا رهطا منهم إلى رؤساء اليهود في عيد لهم فسألوهم عن شأنه عليه الصلاة والسلام فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الرهط وأخبروهم بما قالت اليهود قالوا ذلك. وقوله تعالى : (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) أي بكل واحد من الكتابين (كافِرُونَ) تصريح بكفرهم بهما وتأكيد لكفرهم المفهوم من تسميتهما سحرا وذلك لغاية عتوهم وتماديهم في الكفر والطغيان وقرأ الأكثرون «ساحران» وأراد الكفرة بهما نبينا وموسى عليهما الصلاة والسلام.
وقرأ طلحة والأعمش «اظّاهرا» بهمزة الوصل وشد الظاء وكذا هي في حرف عبد الله وأصله تظاهرا فلما قلبت التاء ظاء وأدغمت سكنت فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بالساكن ، وقرأ محبوب عن الحسن ، ويحيى بن الحارث الذماري وأبو حيوة وأبو خلاد عن اليزيدي تظاهرا بالتاء وتشديد الظاء. قال ابن خالويه : وتشديده لحن لأنه فعل ماض وإنما يشدد في المضارع. وقال صاحب اللوامح : لا أعرف وجهه. وقال صاحب الكامل في القراءات لا معنى له. وخرج ذلك أبو حيان على أنه مضارع حذفت منه النون بدون ناصب أو جازم ، وجاء حذفها كذلك في قليل من الكلام