وروى البخاري وأبو داود والنسائي عن خباب بن الأرت قال : «شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولقد لقينا من المشركين شدة فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) أي في قولهم آمنا (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) في ذلك ؛ والفاء لترتيب ما بعدها على ما يفصح عنه ما قبلها من وقوع الامتحان ، واللام واقعة في جواب القسم ، والالتفات إلى الاسم الجليل لإدخال الروعة وتربية المهابة ، وتكرير الجواب لزيادة التأكيد والتقرير ، ويتوهم من الآية حدوث علمه تعالى بالحوادث وهو باطل. وأجيب بأن الحادث تعلق علمه تعالى بالمعدوم بعد حدوثه ، وقال ابن المنير : الحق أن علم الله تعالى واحد يتعلق بالموجود زمان وجوده وقبله وبعده على ما هو عليه ، وفائدة ذكر العلم هاهنا وإن كان سابقا على وجود المعلوم التنبيه بالسبب على المسبب وهو الجزاء فكأنه قيل : فو الله ليعلمن بما يشبه الامتحان والاختبار الذين صدقوا في الإيمان الذي أظهروه والذين هم كاذبون فيه مستمرون على الكذب فليجازين كلا بحسب علمه فيه ، وفي معناه ما قاله ابن جني من أنه من إقامة السبب مقام المسبب ، والغرض فيه ليكافئن الله تعالى الذين صدقوا وليكافئن الكاذبين وذلك أن المكافأة على الشيء إنما هي مسببة عن علم ، وقال محيي السنة : أي فليظهرن الله تعالى الصادقين من الكاذبين حتى يوجد معلوما لأن الله تعالى عالم بهم قبل الاختبار.
وقرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر بن محمد والزهري رضي الله تعالى عنهم «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام على أنه مضارع أعلم المنقولة بهمزة التعدية من علم المتعدية إلى واحد وهي التي بمعنى عرف فيكون الفعل على هذه القراءة متعديا لاثنين والثاني هنا محذوف أي فليعلمن الله الذين صدقوا منازلهم من الثواب وليعلمن الكاذبين منازلهم من العقاب وذلك في الآخرة ، أو الأول محذوف أي فليعلمن الله الناس الذين صدقوا وليعلمنهم الكاذبين أي يشهدهم هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر ، والظاهر أن ذلك في الآخرة أيضا ، وقال أبو حيان : في الدنيا والآخرة ، وجوز أن يكون ذلك من الاعلام وهو وضع العلامة والسمة فيتعدى لواحد أي يسمهم بعلامة يعرفون بها يوم القيامة كبياض الوجوه وسوادها ، وقيل : يسمهم سبحانه بعلامة يعرفون بها في الدنيا كقوله عليه الصلاة والسلام : «من أسر سريرة ألبسه الله تعالى رداءها».
وقرأ الزهري الفعل الأول كما قرأ الجماعة ، والفعل الثاني كما قرأ علي كرّم الله تعالى وجهه وجعفر والزهري رضي الله تعالى عنهم (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) قال مجاهد : أي يعجزونا فلا نقدر على مجازاتهم على أعمالهم والانتقام منهم وأصل السبق الفوت ، ثم أريد منه ما ذكر وقيل : أي يعجلونا محتوم القضاء ، والأول أولى.
وفسر قتادة على ما أخرجه عنه عبد بن حميد وابن جرير (السَّيِّئاتِ) بالشرك والجمع باعتبار تعدد المتصفين به وإطلاق العمل على الشرك سواء قلنا إنه ما كان عن فكر وروية كما قيل : أو عن قصد كما قال الراغب : أم لا لا ضير فيه لأنه يكون بعبادة الأصنام وغيرها ، وقيل : المراد بالسيئات المعاصي غير الكفر فالآية في المؤمنين قطعا ، وهم وإن لم يحسبوا أن يفوتوه تعالى ولم تطمع نفوسهم في ذلك لكن نزل جريهم على غير موجب العلم وهو غفلتهم وإصرارهم على المعاصي منزلة من لم يتيقن الجزاء ، ويحسب أنه يفوت الله عزوجل.
وعمم بعضهم فحمل السيئات على الكفر والمعاصي ، وتعليق العمل بها بناء على تسليم تخصيصه بما سمعت